مازال الكثيرون- بلاشك- يتذكرون المشاهد التى تم تصويرها داخل حديقة الحيوان بالجيزة فى فيلم «موعد غرام»، ذلك الفيلم الذى جسد بطولته العملاقان عبدالحليم حافظ وفاتن حمامة، وعلى رأس تلك المشاهد أغنية «كان يوم حبك أجمل صدفة»، حين كانت سيدة الشاشة العربية تتنزه فى حديقة الحيوان بين أشجارها وطرقاتها لتلقط صورا لها ولبعض الحيوانات الموجودة بها،
صحيح أن هذا كان فى الخمسينيات، ومضى على تصوير ذلك الفيلم ما يقرب من ٥٤ عاما، إلا أننا كلما شاهدناه ودققنا فى الشكل الذى كانت عليه حديقة الحيوان بالجيزة، والشكل الذى آلت إليه الآن، نشعر وكأن دهرا مر عليها وحدها وليس على «صدفة» «حليم» و«فاتن».
الآن سنأخذك فى جولة على أرض الواقع من داخل الحديقة التى أمر بإنشائها الخديو إسماعيل وتأسست عام ١٨٩١م على مساحة ٨٠ فداناً، والتى تعتبر أكبر حديقة للحيوانات فى مصر والشرق الأوسط، وأطلق عليها «جوهرة التاج لحدائق الحيوان فى أفريقيا»، ولكن طالتها بعض أيادى الإهمال التى أدت إلى إصابة بعض الحيوانات النادرة فيها بأمراض تسببت فى وفاتها، كما تم توجيه اللوم إلى المسؤولين عنها من قبل الاتحاد الدولى لحدائق الحيوان بسبب المعاملة السيئة التى تلقاها الحيوانات هناك، مما أدى إلى استبعاد مصر من عضوية الاتحاد عام ٢٠٠٤.
« المصرى اليوم» ترصد الأوضاع داخل الحديقة بعد القرار الحكومى بمضاعفة أسعار التذاكر.
الجولة كانت فى أول «جمعة» بعد قرارالحكومة الأخير برفع أسعار تذاكر حدائق الحيوانات على مستوى الجمهورية إلى جنيهين بدلا من جنيه واحد، والذى أرجعته إلى أمرين، أولهما معالجة الأزمة المالية التى تمر بها حدائق الحيوان والتدهور الذى تتعرض له منذ فترة، وثانيهما تقليل عدد زوار الحديقة نظراً للزحام الشديد الذى كانت تعانى منه، وأشارت الحكومة إلى أن زيادة الرسوم إلى جنيهين سوف تحسن من صورة الحديقة ليتمتع بها الزوار المناسبون.
ما إن تصل إلى البوابة الرئيسية للحديقة والتى تقع فى شارع شارل ديجول، حتى تجد الباعة الجائلين يحيطون بأسوارها ويطوقونها كسوار المعصم، أكياس الشيبسى وزجاجات المياه الغازية، الفول، الطعمية، الكشرى، البطاطا، المخلل، البيض، وبعض العرائس والبالونات والكور، كل تلك المنتجات وغيرها الكثير ستصبح فى متناول يديك إذا شئت، ولكن بأسعار مضاعفة، ولأن أغلب المواطنين الذين يزورون حديقة حيوانات الجيزة من الطبقة الكادحة، فإن تلك الأسعار لا تناسبهم بالمرة، ويبدو أن هذا هو السبب الرئيسى وراء احتياطات الزوار المسبقة وحملهم لكل ما سيحتاجونه من طعام وشراب هم وأطفالهم خلال يومهم داخل الحديقة.
الجميع يقف أمام شباك التذاكر يسأل عن سبب تلك الزيادة، والإجابة واحدة من أجل أعمال التطوير التى تريد الحكومة أن تقوم بها داخل الحديقة، علامات حزن وأخرى مليئة بالدهشة وثالثة غاضبة ترتسم على وجه كل أب أو أم أخرج من جيبه ٣ أو ٤ جنيهات لشراء تذاكر الدخول، فهو مطالب بدفع ضعف ما كان يدفعه سابقًا، ولكن هل سيحرم أبناءه من «فسحة» وعدهم بها منذ فترة، هل سيعودون أدراجهم ويأمرهم بأن ينسوا خططهم التى أخذوا يرتبون لها طوال الليل عما سيفعلونه فى الحديقة، وعن الحيوانات التى سيشاهدونها، ولأنه من الصعب على أى أب- أو أم- أن يحطموا أحلام أطفالهم الصغيرة من أجل بضعة جنيهات، فلا مفر من الدخول، حتى وإن كان هذا الأب وتلك الأم قررا أن تكون تلك آخر مرة يصطحبان فيها أبناءهما إلى تلك الحديقة.
لم يقف الأمر عند تلك اللوحة فقط، ولكن زوار الحديقة يجدون مشقة كبيرة فى التعامل مع غيرها من اللوحات الإرشادية، خاصة أن أغلبها طمست مثل لوحة بيت السباع التى اختفى السهم الموجود عليها، ولم يعد بإمكانهم أن يعرفوا فى أى اتجاه يسيرون إذا أرادوا التوجه إلى هناك، أما ما يثير دهشة بعضهم فهى تلك اللوحة التى وضعت فى منتصف بيت «سيد قشطة» وعلقت على شجرة تتوسط البحيرة التى يعيش فيها، وكتب عليها «ممنوع الجلوس على الخضرة»، حتى إن أحد الزوار علق قائلا «أكيد الكلام ده مكتوب لـ سيد قشطة علشان إحنا مش مسموح لنا أصلا ندخل جوه ولو دخلنا مش هنعرف نوصل للشجرة إللى حواليها البحيرة»، وما إن يتركوا تلك اللوحة حتى يفاجأوا بلوحة جديدة مكتوب عليها «ممنوع معاكسة الحيوانات» ولكن كلمة الحيوان شطبت باستخدام قلم فلوماستر أبيض وكتب بدلا منها كلمة لتتحول اللوحة إلى «ممنوع معاكسة النسوان».
أمام كل قفص للحيوانات يقف حارس أو اثنان مهمتهما فى الأساس هى الاعتناء بالحيوان والحفاظ على منطقته نظيفة، ولكن الأمر هنا مختلف والمهمة أيضا مختلفة، فلا يقتصر دور الحارس على الاعتناء والتنظيف، ولكنه يمسك بيديه عصا طويلة يغرز فيها قطعة خبز شمسى أو خس أو جزر، وكلما اقترب منه طفل سأله إن كان يريد أن يطعم الحيوان بنفسه، وبالتأكيد الإجابة تكون بالإيجاب دائما، ويبدأ الأبوان فى التقاط الصور لأبنائهما وهم يطعمون الحيوانات باستخدام كاميرات تليفوناتهما المحمولة أو بكاميرات أخرى، وبعد أن ينتهى التصوير يمد الأب يديه إلى جيب الحارس بربع جنيه أو أكثر، كل حسب حالته المادية، وفى المقابل تحاصر صناديق القمامة الممتلئة أسوار بيوت بعض الحيوانات مثل الأسد والحمار الوحشى.
قد تكون هذه الأمور طبيعية إلى حد ما إذا اقتصرت على إطعام بعض الطيور أو الغزلان، ولكن ماذا إن تطور الأمر ليصل إلى بيت الأسد وبيت الزواحف من تماسيح وثعابين، فيمكنك بـ٣ جنيهات فقط أن تلتقط صورا وأنت ممسك بأحد التماسيح الصغيرة التى توجد داخل بيت الزواحف، أو أن تلف على يديك ثعبانا صغيرا بشرط ألا تتحرك ولو سنتيمترا واحدا، متناسيا تلك اللوحة الكبيرة التى تم وضعها فى كل أرجاء بيت الزواحف وكتب عليها بالخط العريض «برجاء عدم الإمساك أو التصوير مع أى زاحف».
أما «ملك الغابة» فبرغم القفص الحديدى الذى تم إغلاقه بإحكام ووضع بداخله، فإن سورا آخر أحاط بذلك القفص لإبعاد الزوار عنه لأمتار ليست قليلة، خوفا من أن يقترب أحدهم منه ويحاول لمسه، ولكن لكل قاعدة استثناء، فبسهولة شديدة يمكنك عبور ذلك السور والاقتراب من قفص الأسد واستفزازه أيضا لتلتقط صورة معه، أو أن تصوره وتسجل زئيره بالفيديو، وهذا كله بـ١٠ جنيهات فقط، فستجد الحارس يفتح لك الأبواب المغلقة، بل ستجد أيضا أحد الأشخاص يرتدى سترة مكتوبا عليها «وحدة التصوير» يسهل لك مهمة دخولك ويلتقط لك صورا فورية مع الأسد،
الأمر نفسه ستجده داخل بيت الفيل، فلم يتبق فى حديقة الحيوان إلا فيلان فقط، بيتاهما هما الأكثر إقبالا من قبل زائرى الحديقة، حتى إن أحد الحراس يقول عن الفيل « ده نجم الشباك فى الجنينة خصوصا بعد ما انقرضت كل الأفيال إللى كانت هنا ومابقاش فاضل غير اتنين»، أحد الأفيال مكبل بسلاسل حديدية داخل قفصه، وليس بيد الحارس إلا أن يعطى أى طفل يرغب فى التصوير معه بعض الطعام ليمده إلى «زلومة الفيل»، أما بيت الفيل الآخر فدخوله يحتاج منك أن تشترى تذكرة كانت بجنيه قبل الزيادة الأخيرة التى جعلتها الضعف.
أحد الحراس يعمل فى الحديقة منذ أكثر من ٢٧ عاما، قال إنه يحفظ الحديقة وحيواناتها عن ظهر قلب، بل إن هناك ألفة شديدة أصبحت تربط بينه وبينهم، ولكنه يرثى للحال التى آلت إليه حيواناتها، قائلا «الحيوانات هنا عندها اكتئاب زى اللى عند البنى آدمين بالضبط، وده مش بسبب إنهم محبوسين فى الأقفاص لكن بسبب الإهمال»، يصمت لحظة ثم يعود ليقول «أتذكر جيدا وقت أن كانت تلك الحديقة مليئة بالحيوانات النادرة، وكان الآباء والأمهات يصطحبون أبناءهم إليها ليروها، ولكنى الآن لا أصدق أن الحديقة بلا زرافة أو الدب الأبيض، أو أن الأفيال فيها فى طريقها للانقراض، أو أن حيوانات أخرى تموت الواحد تلو الآخر دون سبب واضح،
ولكنى متأكد من أن الإهمال هو السبب، فلا يوجد أى اهتمام بتلك الحيوانات هنا، ولا أعرف ما هو التطوير الذى يتحدثون عنه، هل يقصدون أنهم سيحضرون زرافة، فهل هذا تطوير أم أنه شىء بديهى أن يكون هناك زرافة داخل حديقة الحيوان، ويستطرد قائلا: «أما إذا كانوا يقصدون النظافة والاهتمام بالشكليات فأتمنى أن يسلمونا زيا جديدا لأننى لم أستلم بدلة غير التى أرتديها منذ ٥ سنوات تقريبا».
الأطفال جميعهم هنا يسألون عن الزرافة، أين هى، ولماذا لم يروها، هم يثقون تمام الثقة فى أنه لا حديقة حيوان فى الدنيا بدونها، بل إنهم يتذكرون الأغنية التى غناها «بوجى وطمطم» وقالوا فيها «يا جنينة الحيوانات.. يا سكر يا نبات.. فيكى الفيل والزرافة.. وقرود صبيان وبنات.. يا أحلى جنينة فى الدنيا. يا جنينة الحيوانات»، ولكن السهم المرسوم أسفل صورة الزرافة الموجودة على تلك اللوحة المعدنية فوق سور «الكباش»، طمس تقريبا، ولم يعد باستطاعتهم أن يعرفوا فى أى اتجاه سيجدونها، وما هى إلا لحظات ويؤكد لهم الحراس أن الزرافة ماتت، وحتى إن أرادوا الذهاب إلى حيث كانت، فسيجدون أن النعامة احتلت بيتها، وأخذت تتجول فى كل أركانه، ولم يعد أمامهم إلا أن يستكملوا جولتهم متناسين أمر الزرافة التى اختفت فى ظروف يرونها غامضة وغير مبررة.
رحلة طويلة يقضيها الزائرون فى تفقد كل أركان الحديقة، أقدام الأطفال تسبق آباءهم، يسألونهم عن هذا المبنى المغلق الذى كتب عليه «الكشك اليابانى» فيجيبهم أحد الحراس بأنه متحف صغير داخل الحديقة، يحوى بعض المقتنيات والصور الفوتوغرافية لحديقة الحيوان قديما وحديثا، تم إنشاؤه فى عهد الملك فؤاد عام ١٩٢٤ بمناسبة زيارة ولى عهد اليابان لمصر، يسألون عن سبب إغلاقه فلا يجدون إجابة،
المشهد ذاته يتكرر عند ذلك المبنى الذى تعتليه لافتة «متحف الحيوان» والذى يضم مجموعة نادرة من الحيوانات والطيور والزواحف المحنطة، ولا يجد الزوار وأطفالهم إلا أن يتركوها ويكملوا جولتهم، ويلح الأطفال على آبائهم بألا يتركوا حيوانا إلا ويزورونه ويطعمونه، فتلك القرود بأنواعها المختلفة، الكبير منها والصغير، تملأ عيون الأطفال بالسعادة كلما قذفوا إليها بعض حبات الفول السودانى، أو أن يمدوا تلك العصا التى تحوى قطعا من الخس فتتسابق القرود لالتقاطها، ليبدو المشهد وكأنها تأكل للمرة الأولى فى حياتها، أما الكنجارو فرؤيته الآن تكاد تكون مستحيلة، فقد دخل إلى أقفاصه التى أغلقت بالأقفال، وأكد الحراس للسائلين أن هذا موسم تزاوجها وعليها أن تبقى فى الداخل، وبرغم الزحام حول سبع البحر، إلا أن المتعة القصوى تظل لكل من يقدر على دفع ٣ أو ٤ جنيهات للحراس المسؤولين عنه، حتى يتمكن الطفل من الدخول إليه والتقاط الصور معه، ولا مانع من أن يحتسى الآباء كوبا من الشاى يشترونه من تلك البائعة المتجولة، التى أحضرت معها «وابور صغير» لتستخدمه فى صنع الشاى للزائرين، وعلى بعد خطوات من بيت سبع البحر تجد القفص الذى يسكنه الدب، وقد أحاطته بعض لافتات تحوى دعاية إعلانية لشركات تكييف، يؤكد الحارس أنها تبرعت بالتكييفات التى تم تركيبها داخل بيت الدب.
الآن تعبت الأقدام، الصغيرة منها قبل الكبيرة فى تلك الجولة المرهقة، وعلى الجميع أن يستريحوا قليلا، فربما يعودون بعدها لاستكمال جولتهم وزيارة بعض الحيوانات مرة أخرى أثناء رحلة العودة إلى باب الحديقة، يجلس البعض على تلك المقاعد الأسمنتية التى تناثرت فى أجزاء مختلفة من الحديقة أو حتى تلك الأخرى الخشبية، ولكن يبقى الجلوس على الأرض هو السلوك الأعم والأقرب إلى قلوب أغلب زوار حديقة الحيوان، فتلك السيدة افترشت ملاءة صغيرة وجلست عليها بصحبة أطفالها، أما الأخرى فأخذت ترص أوانى الطعام التى أتت بها من منزلها إيذانا منها باقتراب موعد الغداء،
ولكن هذا الصغير لم يتردد كثيرا قبل أن يخرج الكرة من الحقيبة التى فى حوزة والده، ليبدأ مباراته الفردية التى لا تمر دقائق إلا وتصبح جماعية بعد أن ينضم إليه إخوته وبعض الأطفال الجالسين على الملاءة المجاورة، أما تلك الطفلة فأخذت تلح على والدتها أن تذهب بها إلى دورة المياه، وبدت على ملامح وجه الأم علامات تشير إلى أنها مهمة ليست بيسيرة،
وما إن تدخل داخل إحدى دورات المياه هناك، حتى تعلم السبب فى أن تكون تلك المهمة الأسوأ والأبعد عن قلوب الزوار، فمعظم دورات المياه هناك معطلة، وإذا كانت ليست كذلك فالصنابير الموجودة بها تالفة، مما أدى إلى غرق المكان بالمياه، حتى إن تلك السيدة المسؤولة عن نظافة الحمام لم تجد أمامها إلا أن تضع جركنا صغيرا أسفل حوض المياه حتى تتجنب تلك النقاط المتسارعة التى تهطل من فوهة الصنبور على الحوض المكسور.
مع اقتراب الخامسة تبدأ الحديقة فى الإعلان عن إغلاق أبوابها، فتلك حديقة الألعاب المخصصة للأطفال قد حان موعد تركها، والأنوار انطفأت داخل بيت الزواحف لتجبر الزوار على الخروج، أما الحراس فانتهى ما بحوزتهم من طعام وأخذ كل منهم يشير إلى الحيوان الذى يحرسه بالدخول إلى بيته،
وما كان من الجالسين على المقاعد أو هؤلاء الذين افترشوا الأرض إلا أن لملموا أغراضهم إيذانا بالرحيل، وكانت مهمة البعض منهم صعبة فى إقناع أطفالهم بانتهاء «الفسحة» وبأنه حان موعد العودة إلى البيت، ولكن «ما باليد حيلة» هذا هو لسان حال الجميع، وأمام اللافتة المكتوب عليها «مع تمنياتنا بوقت سعيد» وقفت طفلة بدا على ملامحها الحزن وقبل أن تغادر باب الحديقة قالت لوالدتها «بس أنا ما شفتش الزرافة» فأجابتها الأم: «ما هما زودوا تمن التذكرة علشان يشتروها يا حبيبتى» وأمسكت بيديها الصغيرتين ورحلتا.