«خوفى من سخرية الناس فى المواصلات يدفعنى للطلب من السائق إنزالى أول كوبرى أكتوبر، بدلاً من مستشفى العباسية».
بهذه الكلمات لخصت مروة، الممرضة بمستشفى العباسية للأمراض النفسية، واقع مجتمع يخشى التعامل، من قريب أو بعيد، مع المريض النفسى، وحتى إن أُجبر على التعامل فإنه يلفظه.
مجتمع مصدر معلوماته عن المرض النفسى، وفقاً لتصريحات مسؤولين بأمانة الصحة النفسية، هو الأعمال الدرامية، التى صورت «المريض» للمجتمع بأنه شخص لا يُشفى، ولا أمل فى علاجه، وبالتالى.. لا مكان له فى واقعنا.
السؤال: إذا كان ذلك هو حال ممرضة تعمل بالمستشفى، تخجل من أن تُفصح عن مكان عملها، تفادياً لسخرية الآخرين، فما بالنا بقاطنى «المستشفى»، خاصة من أتم منهم شفاءه، ورفض المجتمع دمجهم، ورفض هو أن يخرج إلى واقعنا المليء بالسخرية والتهكم، ليكون المكان الوحيد «المتقبل» له هو المستشفى حتى وفاته.
وكشفت «المصرى اليوم» تزايد أعداد المستشفيات النفسية عقب الثورة، كما رصدت أوضاع مستشفى العباسية للصحة النفسية، وبحثت عن سر ارتفاع نسب التردد عليه بعد الثورة، مقارنة بانخفاض أعدادهم خلال رمضان من كل عام.
استقبلنا الدكتور مصطفى حسين، مدير المستشفى، بعتاب ولوم شديدين، على سلبية تناول الإعلام والدراما للمرضى النفسيين، وحصره لهم فى إحدى صورتين، إما «إسماعيل يس فى مستشفى المجانين» أو «بلحة» فى فيلم «الدنيا على جناح يمامة».
بعد وصلة العتاب، تحدث عن دور المجتمع فى إعادة تأهيل المريض واستيعابه، لأن الكثير منهم ضحية للظروف القاسية، ولظلم الأقارب، كاشفاً عن أن بعضهم موهوب فى فنون بعينها. وقعنا على ورقة، بطلب من المدير برغبتنا فى جولة داخل المستشفى وألا نصور أحداً دون موافقته، على أن يصحبنا أحد أعضاء لجنة حقوق المرضى، لـ«ضمان سلامتنا عند احتكاكنا بحالات متأخرة».
فى عنبر السيدات صاحبتنا الإخصائية النفسية أميرة فتحى، وتحدثت عن تعرض أفراد من الفريق الطبى لاعتداءات من الحالات المتأخرة، للمرضى «عشرة العُمر»، قالت: المرضى تغيروا عن الماضى، أصبحوا يعرفون حقوقهم، ومتى يقولون نعم، ومتى يرفضون. روت «أميرة» طرائف ومواقف إنسانية عايشتها، خلقت «عشرة» مع بعض المرضى، مستشهدة بأن « كل من يخرج من المستشفى يعود إليه ثانية لعدة أسباب، منها عدم استيعاب المجتمع، أو انتكاسة صحية، وربما للعشرة مع زملائه من المرضى، فبعضهم يقضى سنوات داخل المستشفى، قد تصل إلى 50 عاماً، حتى إننا نقارن بينها وبين مياه النيل اللى يجربها لازم يرجع لها. أخذتنا الإخصائية، التى هى عضو بلجنة حقوق المرضى، لمسرح المستشفى، لإجراء اللقاءات بداخله.
الحالة الأولى «عبير»، وقالت إنها موجودة منذ 14 عاماً، وتتمنى أن تعيش فى المستشفى بقية حياتها حتى تموت. مع «عبير» تشعر أنك تتحدث مع شخص غاية فى العقل والاتزان، الغريب هو السبب الذى روته عن دخولها المستشفى، أحد شقيقيها، ضابط أمن دولة، حاول رميها من الدور الرابع، لأنها رفضت التوقيع على توكيل يمكنه من التصرف فى ممتلكاتها فكرهت الفلوس بوصفها «سبب كل البلاوى» و«ضيعت الرحمة بين الناس».
قالت إنها دخلت المستشفى عقب موت شقيقها الآخر غرقا أثناء شهر عسله بالإسكندرية، وكانت تعتبره الأخ والأب وكل شىء فى حياتها فلم تستوعب رحيله فجأة، خاصة أن الأول «عاق» وقاس وكل هدفه ممتلكاتها، لينتهى بها الأمر إلى الإدمان.
ترى عبير أن ثورة 25 يناير «أحسن حاجة فى الدنيا»، لأنها أعادت للشعب كرامته الضائعة، وجعلت الناس يعبرون عن رأيهم بحرية، دون خوف من أمن الدولة أو الاعتقالات، متهمة مبارك بأنه «ضيع نفسه وشعبه» و«كان يريد تسليم رقبتنا لإسرائيل»، متوقعة للدكتور محمد مرسى أن ينصلح حال البلد على يديه، لأنه «رجل طيب وعارف ربنا».
بعد ساعة «دردشة» مع عبير، جلسنا مع الحاجة مبروكة التى كانت أولى كلماتها تمنى «الخروج من هنا بفارغ الصبر، وأرجع لولادى»، مرجعة دخولها المستشفى، إلى تعرضها لحالة صحية، قبل 20 عاماً، عقب ولادة ابنها الأصغر، جعلتها تصرخ بشكل هستيرى، دون إبداء أسباب، لينتهى الأمر بإيداعها المستشفى، على فترات متتالية.
مبروكة، قليلة الكلام تجيب عن الأسئلة فقط، بإجابات مقتضبة، وتبدو شاردة معظم الوقت، وعرفنا منها فيما بعد أنها تعالج، أيضا من مرض السكر، داخل المستشفى، وكل أملها أن تستكمل العلاج وسط أبنائها. كانت مبروكة وعبير، تبتسمان دائماً لإحدى الممرضات الموجودة داخل المسرح عرفنا أنها «رانيا» تعمل بالمستشفى منذ 14 عاماً، تصفه بـ«بيتها الثانى»، فيه تقضى معظم يومها، مع المرضى، وكأنهم أسرتها.
حرصت رانيا على توجيه رسالة من خلالنا، إلى أهالى المرضى الذين يرفضون تسلم ذويهم بعد اكتمال علاجهم، قائلة لهم: «إحنا مش أحن عليهم منكم، ساعدوهم يرجعوا تانى أسوياء».
أوضح الدكتور مصطفى حسين، مدير المستشفى، أن سعته 1700 سرير، مشغول منها الآن 1340، وباقيها للصيانة والتجديد، ومعظم النزلاء رجال، وأنه بمجرد خول المريض، توضع له خطة علاجية من فريق متخصص، وللأسف: غالبية الحالات، التى يتم علاجها تتعرض لانتكاسة بعد خروجها من المستشفى، خاصة قسم الإدمان، صاحب النسبة الكبرى فى الانتكاسة لعدم تقبل المجتمع لهم، وعدم مساعدته لهم فى إعادة التأهيل. وكشف حسين عن وجود مرضى منذ 50 عاماً، لا يعرفون شيئاً عن المجتمع بالخارج، شاكياً من أن الكثير من الأهالى يأتون بذويهم بغرض الإيداع لا العلاج، وفى المقابل الكثير من الأهالى لا يعرفون أن ذويهم نزلاء هنا، وربما يكتشفون ذلك بعد سنوات.
سألناه عن عنبر «صحة 58» الذى سمعنا اسمه يتردد كثيراً، فشرح لنا أنه القسم الذى تودع فيه الحالات التى يعثر عليها فى الشوارع، وليس لهم أقارب ولا توجد لهم بيانات، وغالباً تكون حالتهم متأخرة، ويمثلون خطورة على حياتهم وعلى المجتمع.
نبهنا المدير إلى قسم أكثر خطورة، هو قسم الطب الشرعى، الذى يضم المتهمين الذين تحيلهم النيابة تحت حراسة من الشرطة، وغالبيتهم تمثل حالتهم خطراً على حياتهم لمحاولات الانتحار المتكررة. على هامش جولتنا، تحدثنا مع الدكتور عارف خويلد، أمين عام مستشفيات الصحة النفسية بوزارة الصحة، الذى أكد لنا زيادة عدد المترددين على مستشفيات الصحة النفسية، فى فترة ما بعد الثورة، ليس فقط لتزايد أحداث العنف والمتغيرات التى شهدها المجتمع عقب الثورة، وإنما لزيادة الوعى لدى المجتمع بالمرض النفسى، ولانضمام مستشفيات جديدة تابعة للأمانة، التى كانت حتى عام 2010، 7 مستشفيات أصبحت 16 يضاف لها مركزان لعلاج الإدمان، أحدهما بالعجمى، الإسكندرية، وهو مركز عباس حلمى لعلاج الإدمان، والآخر مركز شبرا قاص بطنطا.
قال خويلد إن عدد المترددين على مستشفيات الأمانة فى الشهر الماضى بلغ 2487 مريضاً ويرى أمين عام مستشفيات الصحة النفسية أن المواطن كان يتوقع أن تتحسن حالته المعيشية، وأن تنخفض الأسعار ويجد العاطلون عملا بعد الثورة، لكن مع الوقت اكتشفوا العكس فأصيبوا بالإحباط ثم عادوا مرة أخرى يتفاءلون بتحسن الاوضاع ثم يكتشفون استمرار المشاكل ذاتها، وهكذا استمر الوضع بين التفاؤل والإحباط لينعكس ذلك سلباً على الحالة النفسية فيما يشبه تجربة «الفأر ولقمة العيش».
وقال خويلد إن يناير 2011 شهر الثورة كانت نسبة الإقبال فيه على المستشفى أقل من سابقه عام 2010، وسلفه 2012، حيث وصل عدد المترددين على مستشفيات الصحة يناير 2011 إلى 900 مريض ويناير 2010 إلى 1200 مريض ويناير 2012 إلى 1300 مريض أى أعلى النسب، مشيراً أيضاً إلى ارتفاع نسب التردد فى مايو ويوليو من كل عام وتراجعه فى شهر رمضان من كل عام، لأجواء الروحانيات التى تسهم فى علاج المريض.