«خافوا منه وهو حي ..وظلموه وهو ميت»، الجملة الكاشفة التي قالتها السيدة زكية أرملة فؤاد حداد، في الفيلم التسجيلي «الأب الروحي» الذي أعده وائل عبد الفتاح عام 1998، لذا احتفى فؤاد حداد في شعره بالقلة التي انصفته حيًا.
في حضرته تقف بين طرفي نقيض، بين مؤمنين بمشروعه حد التقديس، وبين من فضلوا تجاهل الإحاطة بما كتبه، مكتفين بتنميطه واختصاره في ديوان أو اثنين، وربما قصيدة أو اثنتين.
«حضور براق ومختصر»، كما يرى وائل عبد الفتاح.
«لو أن هناك مهمة كرس لها والدي نفسه كرسالة حياة بجانب كتابة الرواية فهي التعريف بشعر فؤاد حداد»، يقول زين ابن الروائي الكبير خيري شلبي متحدثا عن علاقة والده بوالد الشعراء: «كان يبدأ جلساته الخاصة على المقهى بتلاوة قصائد فؤاد حداد، التي كان يحفظها عن محبة وإجلال».
فؤاد حداد، قدر ما يفعله الرجل، فكتب إهداءه المؤلم والكاشف إلى «خيري شلبى ومحمد كشيك وكل من أراد أن أنصف حيًا».
كان خيرى شلبى، أول درويش رسمى لإمام الشعراء فؤاد حداد، فمنذ عرف شعره، أدرك أنه أمام شاعر يملك مشروعا متكامل الأركان، وأكثر من كتب عنه فى حياته. كما تأثر به أدبيا ونسج رواية موال البيات والنوم، من ديوان له بنفس الاسم، ونسجت الرواية لتعبر عن التصدير الذى اقتبسه من الديوان «إزاى أفضل أهيم/ ع الخط المستقيم/ من حارة لجوة حارة/ ويفضل قلبى سليم»، بل صارت تلك الأبيات، كما يؤكد زين «منهاجا لحياته».
عندما حاول سيد مكاوى استعادة مشروع المسحراتى بكتابات آخرين، كتب شلبى منبها إياه أن «مسحراتى فؤاد حداد لم يلحن كله» كما نبهه إلى الفارق بين تجربة فؤاد الروحية فى العمل، والتى ستجعل أى استنساخ لها مجرد قالب شكلى خال من الأصالة. بالفعل سقطت جميع تجارب المسحراتى من الذاكرة، ولم يتبق سوى أعجوبة حداد فى الوعى الجمعى للمصريين.
بعد انتفاضة فؤاد حداد الشعرية عقب ديوان أيام العجب والموت، فوجئ بشاعر شاب، يطرق باب بيته، يحمل قصيدة بعنوان القاهرة تتحدث عن فؤاد حداد، يقول محمد كشيك صاحب كتاب جماليات النص الخفى فى شعر العامية أن «فرح صاحب «النقش باللاسلكى» بتلك القصيدة كان عارما، حتى إنه استدعى جيرانه لأسمعها لهم مرة أخرى».
بعد محمد كشيك، تشكلت شلة الوراق، مجموعة من شعراء العامية، ضمت محمد كشيك، رجب الصاوى، محمد الصاوى، عمر نجم، مريدون وتلاميذ يأتونه للتعلم، وآخرون كماجد يوسف وبهاء جاهين، نواة صغيرة لمؤسسة فؤاد حداد الذى عاش بلا «مؤسسة تدعمه».
لكن تبقى شيء، أعمق من الشهرة، وأدق من حب المريد.. الناس.
تحكى بسمة الحسينى، مديرة المورد الثقافى، وواحدة من مريديه فى سنوات الانبعاث، «كان فؤاد حداد، عام 1984 أقرب للتشاؤم، حتى عندما تولدت فكرة الأمسيات فى بيته»، أمسية للجمهور، حملت إحداها عنوان الحمل الفلسطينى.
كانت مزيجا من الغناء والشعر، ضم كورال من عمال مطابع روز اليوسف، يصفهم الملحن محمد عزت الذى لحن لهم «8 أفراد من سن 45 إلى 35 عاما، علاقتهم بالغناء كانت أقرب بالتبشير بالناس وبأحلامهم، لا تطريبهم، أضيف إليهم كورال من الأطفال».
تواصل الحسينى التى شاركته إلقاء أشعاره «عرضنا عددًا من الأمسيات على مسرح الجمهورية والسلام».
فوجئ فؤاد حداد الذى كان متخوفا، بكل تلك المحبة، والنجاح لأشعاره التى تتحدث عن المقاومة، فى زمن كانت تلك الكلمة تفقد معناها، فى صالة ممتلئة عن آخرها بجمهور يبحث عن شاعره.
حياة محمد كشيك وبسمة الحسينى، كحياة خيرى شلبى، لم تعد كما كانت بعد معرفة فؤاد حداد، شعريا وإنسانيا.
يتابع زين خيرى شلبى «كتب والدى فى مقدمة ديوان المسحراتى، جملة أراها كاشفة إذ قال، إن من يقرأ شعر فؤاد حداد، لابد أن يتغير تغيرا جذريا، لابد أن تنتفى من داخله، كل مشاعر الخور والهزيمة، والتحلل وعدم الشعور بالمسؤولية، قادر على تحدى الصعاب، صار إنسانا مسؤولا بحق عن كرامته».
المثال الأكثر شهرة على عبارة صاحب «نسف الأدمغة»، هو الفنان محمود حميدة الذي يعد واحدًا من أهم قرائه باستيعابه الفريد لنصوصه، لم يقابل حميدة فؤاد حداد بل تعرف عليه عبر قصيدة سمعها من خيرى شلبى فسأله عن صاحبها، من يومها وهو أسير هذا الرجل، فقام بشراء الأعمال الكاملة التى احتوت وقتها على خمسة دواوين وقام بتوزيع نسخ منها على أصدقائه. يعيش محمود حميدة مع نصوص فؤاد حداد، كل يوم تقريبا، كل يوم «يتجدد المعنى، كأنى أقرأه الآن».
ككثير من دراويش فؤاد حداد، الذين عرفوه فيما بعد، يظل القاسم المشترك بين محمود حميدة الممثل الكبيرٍ وحسين الحاج الطالب الذى يتلمس أولى خطواته فى الكتابة هو «المجاهدة» فى قراءته.
«لا مفتاح لاستيعاب هذا الرجل والإحاطة به سوى المجاهدة، أن يحتويك نصه» يقول حسين الحاج، الذى تعرف على الشاعر الأكبر فى 2005 عند صدور أعماله الكاملة، والتى لفتت بضخامتها الانتباه إلى ضخامة وتكامل وتنوع مشروعه، ارتبط ذلك بظهور المدونات، على يد جيل شاب، ارتبط بشعر فؤاد حداد، وتناقل قصائده عبر وسائطها.
لم يكتف الحاج، 23عاما، بقراءته، بل تعرف على أمين حداد وسامية جاهين، ابنة الشاعر الكبير صلاح جاهين، بدأ حسين مع قراءة حداد «فى الالتفات إلى التراث العربى، خاصة الموسيقى منه، كنت أفضل عليه الموسيقى الغربية»..مازال حسين يجد إجابات عن أسئلته فى الحياة كلما أعاد قراءة قصائد فؤاد حداد.
لكن يظل السؤال، هل الايمان الكامل بمنجز فؤاد حداد ورحلته ينتج بالضرورة قراءة كاملة؟، لماذا لجأ مثقفونا إلى الحل السحرى فى تنميط تجربة بهذا العمق،ورأوا أن تجاهلها حل أسهل؟.