x

فؤاد حداد.. «كان حالف تحت عين الله ياخُد حقه من موته»

الأربعاء 31-10-2012 21:23 | كتب: أحمد الفخراني |
تصوير : other

يبدو عشاق فؤاد حداد ودراويشه مطمئنين في رحابه، يجدون إجابات شافية عن أسئلة الحياة، الوطن، الهوية، على العكس، تبدو رحلة فؤاد حداد «الصوفي الذي امتزجت حياته بشعره سؤال قلق ممتد» كما يرى الشاعر والصحفي وائل عبد الفتاح:«حالة أكبر من دراويشه، امتصهم كقطب صوفي».

يشكك الجيل الأحدث في مفهوم الهوية الجمعية للمصريين الذي تغنَّى به الشاعر الأكبر فؤاد حداد لصالح انتصار أكثر رحابة لهوية الفرد وعدم فرض هوية واحدة من فصيل واحد على الوطن، رغم ذلك يتغنى هذا الجيل بأشعار حداد.

رحلته في الحياة أيضًا انتصرت لشكل يرى في التراث نجاة، وفي علم الغرب وسيلة تطوير، هذا التصور أيضًا صار محل شك، ورغم ذلك يعرف هذا الجيل قيمة حداد.

حياته كانت رحلة قلق، كما وصفها وائل عبد الفتاح، إمكانية الأسئلة فيها أكثر من الإجابات التي وجدها دراويشه.

في نهاية السبعينيات كان التهميش والحصار قد وصل إلى ذروته، مما أوصل فؤاد حداد إلى ما يشبه الموت المعنوي، انفتاح السادات في وجهه القبيح ومعاهدة كامب ديفيد- رصد حداد تحولات تلك الفترة وتناقضاتها فيما بعد في ديوان ميت بوتيك- حتى إنه أصيب بمرض فوبيا الأماكن المفتوحة، فكان يصاب بدوخة تمنعه من المشي في الميادين الواسعة التي تبدلت ملامحها بفعل انفتاح السادات، الأطباء لم يجدوا سببًا عضويًا للحالة، فأخذه صلاح جاهين إلى الطبيب النفسي د.يحيى الرخاوي الذي كتب له عددًا من الأدوية النفسية منعته من التركيز بالشكل الكافي للكتابة. كانت كل محاولاته للكتابة في تلك الفترة محاولات فقيرة الخيال، ولا تناسب موهبته اللامحدودة.

حصار صاحب «من نور الخيال» من قبل السلطة بدأ ربما ثمنًا لاختيارات في بداية حياته، لم تعرف المساومة والمهادنة، فابن العائلة البرجوازية ذات المستوى المادي المتيسر في تلك الفترة نظرًا لعمل والده في السلك الجامعي، انضم لتنظيم حدتو الشيوعي، بعد أن تعرف على هذا الفكر فى مدرسة الليسيه الفرنسية، وكان المفكر الراحل محمد سيد أحمد زميله في تلك الفترة.

لم يصل فؤاد حداد يومًا إلى درجة كادر قيادي، في حدتو، فهو لم يكن مهتمًا بالتنظيم قدر ما جذبته فكرة إنصاف الفقراء، والتي وجدها فى الإسلام فيما بعد.

يقول أمين حداد: في طفولة والدي تفتح وعيه على الفروق بين الأغنياء والفقراء، كان حلمه أن يصير فارسًا ليحارب الظلم ويحقق المساواة، ولما كبر عرف أنه «لن يصير فارسًا، فأصبح شاعرًا».

من هنا يمكن فهم اختيار فؤاد حداد المبكر للانضمام للشيوعية، متمردًا ومخلصًا لما آمن به، حتى إنه قرر أن يترك بيت أبيه ويتزوج رغم إرادته فتاة من الطبقة الفقيرة مقارنة بمستوى والده المادي.

رُشح فؤاد حداد ضمن أسماء ضمت محمد سيد أحمد وشقيقه توفيق حداد ومدحت غزالي، للانضمام لتنظيم إسكرا، عقب ما يشبه الامتحان، وانضموا جميعًا عدا فؤاد حداد الذي رسب في الامتحان، لأنه «تجرأ وقال إن ستالين ديكتاتور».

انضم حداد إلى تنظيم حدتو التي دمجت تنظيمي إسكرا والحركة المصرية للتحرر الوطني، ليدفع فؤاد حداد الثمن مرتين: مرة في الاعتقال الأول من عام 1953 إلى عام 1956، والتي كُسرت فيها ذراعه أثناء احدى حفلات التعذيب التي أقامها اللواء إسماعيل همت، مأمور السجن. ثم الاعتقال الثاني بعد انتهاء شهر العسل بين ناصر والشيوعيين في 1959 وحتى عام 1964.

تعلم فؤاد حداد كثيرًا في المرتين، وتبلورت علاقته أكثر بمعرفة الأدب الفرنسي بعد أن ترجم شاعر المقاومة الفرنسية أراجوان، كان قد شرب قبلها عيون الشعر العربي كالمتنبي الذي كان يحفظ أغلب أشعاره، وكعب بن زهير، وآخرين. حداد الذي ولد  في حي الضاهر بالقاهرة في 30 أكتوبر 1927، بعد انتقال الأسرة من لبنان عقب الحرب العالمية الأولى، كان محاطًا بين عنصري ثقافة الأب الذي يحرص على تعلم أولاده اللغة العربية بشكل سليم، المسيحي الذي لا يجد غضاضة في أن يواظب على سماع القرآن الكريم في راديو المنزل، كي يتعود أبناؤه على سماع اللغة العربية بشكل سليم، وثقافة لأم السورية الكاثوليكية التي تتحدث الفرنسية.

تبدت رؤيته للثقافتين في مدرسة الفرير الفرنسية التي التحق بها، فهو يتفوق في إجادة اللغة الفرنسية نطقًا وكتابة كلغة أم، لكنه يرفض التحدث بها خارج فصول الدرس، حتى إن الأمر تسبب له في مشاكل مع رهبان المدرسة الذين يرفضون التحدث باللغة العربية داخل جدران المدرسة.

لكن في الاعتقال الثاني اكتمل تعريف الثقافة «كتب وناس»، كما عرفه بنفسه في ديوانه المسحراتي، يروي لابنه أمين حداد:« أنا ربنا جاب لي مصر كلها وحطها معايا في المعتقل، شفت ناس من النوبة وناس من الصعيد وناس من بحري ومن إسكندرية ومن كل أنحاء الجمهورية، جاءوا قعدوا بأغانيهم وحكايتهم، حتى إنه قال في إحدى قصائده والشكر للي سجنوني وبنيل وطمي وعجنوني». وظهر للمرة الأولى اهتمام شعري خارج الخط السياسي الواضح بقوة في ديوانيه أحرار وراء القضبان وهنبني السد عام 1956، كما تعرف في المعتقل على شعر بيرم التونسي، كما قال بنفسه في حوار له في مجلة ابن عروس المهتمة بشعر العامية.

تحول فؤاد حداد إلى الإسلام، جاء في السجن. رغم النضج الفني والفكري الذي أكسبته إياه أيام الاعتقال إلا أنها كانت ثمنًا فادحًا، فتلك السنوات كانت فرصة لصناعة اسمه في حركة الأدب في تلك الفترة.

قبل أن يخرج من المعتقل انفصل عن تنظيم حدتو، لميلهم إلى المهادنة، الأمر الذي زاد من عزلته، ففي عام 1965 حلت جماعة حدتو نفسها إرضاء لنظام ناصر وايمانًا منها بأن معاداته بعد مواقفه في معاداة الاستعمار، والتأميم موقف رجعي، حصلت كوادر حدتو على مناصب في كل مؤسسات الدولة، وخاصة الصحف.

قابل فؤاد حداد دائمًا غياب النقد وتهميشه من قبل السلطة بصلابة، ازداد التهميش في بداية عصر السادات، لخلفيته الشيوعية، التي لم يعد لها مكان في الدولة الجديدة، حتى أصابه مرض الدوخة، فتوقف بسبب الأدوية عن الكتابة.

حتى حدث انبعاثه الكبير، من الموت المعنوي الذي أصابه، مترافقًا مع موت عدد كبير من أقرب أصدقائه في المعتقل كجودة سعيد الديب. أصيب فؤاد حداد بجلطة عام 1980، فترك أدوية الدوخة بأمر الطب، فعاد معها الشعر صافيًا متدفقًا بإرادة تدرك أن الموت عدو قريب، ففي خلال خمس سنوات قبل وفاته، أنتج فؤاد حداد ما يقارب من ثلثي إنتاجه المعروف، والذي وصل إلى 40 ديوانًا،مثلًا مشروعًا متفردًا،غزيرًا، ومتنوعًا، ومتكاملًا، حتى إن الإحاطة به، لم تتم حتى الآن، بعد أن أقسم في ديوانه أيام العجب الموت: كنت حالف تحت عين الله ..إني آخد حقي من موتي.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية