" أمست الديمقراطية في حاجة أكبر إلى من يدافع عنها أكثر مما كان عليه الحال منذ بدء الحرب الباردة". هذا التحذير أطلقه مؤخرا أحد المخضرمين في مجال الدفاع عن الحقوق المدنية والسياسية، الأمريكي «ارك بادنجتون». وخلال هذا الأسبوع، صار السبب وراء ذلك التحذير جليا.
فقد أصدرت منظمة «فريدوم هاوس» الكائنة في العاصمة الأمريكية واشنطن ـ والتي يرأس بها السيد "بادنجتون" قسم الأبحاث ـ تقييمها السنوي باسم "الحرية في العالم للعام 2010: تآكل الديمقراطية على مستوى العالم"، والذي كشف عن انحسار مستويات الحرية وحقوق الإنسان على الصعيد العالمي للعام الرابع على التوالي، وهي أطول فترة يحدث فيها ذلك خلال أربعين عاما هي عمر المنظمة.
ويقسم تقييم «فريدوم هاوس» للحريات البلاد لثلاث فئات: "حرة"، و"شبه حرة"، و"غير حرة"، وذلك اعتمادا على سلسلة من المؤشرات التي تحدد مدى إيمان تلك الدول بارتباط حقوق الإنسان بالحقوق السياسية.
كما يعني التقرير بالنزاهة الانتخابية في تلك الدول، فضلا عن استقلال القضاء واتحادات العمال. وقد وجد التقرير أن أنظمة الحكم الاستبدادية ليست هي السائدة وحسب، بل والأقوى نفوذا والأكثر تكتما كذلك.
واكتشف التقرير انحدارا في مستويات الديمقراطية في 40 دولة منتشرة في إفريقيا، وأمريكا اللاتينية، ومنطقتي الشرق الأوسط ودول الاتحاد السوفييتي سابقا، بينما ظهرت التطورات الايجابية في نفس المجال في 16 دولة.
وبحسب التقرير فقد انخفض عدد الأنظمة الانتخابية التي تتحرى الديمقراطية من 119 إلى 116؛ حيث خرجت كل من هندوراس ومدغشقر وموزمبيق والنيجر من القائمة، مع دخول جزر المالديف مرة اخرى. تلك التغيرات جعلت إجمالي عدد الدول الديمقراطية في أدنى مستوياته منذ عام 1995، إلا أنه أفضل من المعدل الذي شهده العام 1990؛ حيث توقف العدد عند 69.
بنظرة كلية إلى النتائج التي جاء بها التقرير نجدها تعطي انطباعا بتحول الأمور إلى الأسوأ، بعكس الأجواء الحماسية التي شهدها العالم منذ عشرين عاما، والتي صاحبها انهيار كلا من الشيوعية السوفيتية ونظام التمييز العنصري، مما أقنع الناس وقتها بأن الديمقراطية سادت العالم من أجل الخير. هذه الفترة تعتبرها المفكر الأمريكية «فرانسيس فوكوياما» أنها سجلت تاريخ مجيء الحرية السياسية المدعومة بالحرية الاقتصادية بصفتها أقصى مراحل تطور المجتمع الإنساني، أو كنهاية للتاريخ بالمعنى الأدبي على الأقل.
في مرحلة مبكرة من الفترة التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفييتي، احتشدت روسيا وبعض جاراتها وراء مستشاريهم الغربيين، فلم يكتف الجانبان بإرساء دعائم اقتصاديات السوق وحسب، بل وأسس التعددية الديمقراطية كذلك. ولفترة قصيرة، وجد الغربيون من يستمع إليهم بآذان صاغية.
اختلف الحال في هذه الأيام، حيث أصبحت فكرة أن يقبل السياسيون بالدول الشيوعية السابقة الاستماع إلى نصائح متواضعة من الغرب أمرا يبعث على الضحك. لقد أصبح المستبدون أنفسهم يتبادلون النصائح مع بعضهم البعض. فعلى سبيل المثال، عقد حزب "روسيا المتحدة" الموالي للكرملين آخر اجتماعاته المغلقة في أكتوبر الماضي مع الحزب الشيوعي الصيني. وعلى الرغم من الاختلاف بين كلا البلدين ـ حيث أن معظم الروس يعتقدون بعدم وجود نموذج صيني يمكن الاحتذاء به بسهولة ـ قالت إحدى التقارير الصادرة حول الاجتماع إن الروس أعجبتهم فكرة الجانب الصيني التي تعتمد على وجود نظام سياسي يتحكم فيه حزب واحد في السلطة.
وفيما يتعلق بالمهتمين بقضايا الحرية في الغرب، فان النقطة المثيرة للقلق هي أن مسالة الحرية الديمقراطية لا تتعلق وحسب بالمعاناة السياسية، و لكن أيضا بالتراجع على المستوى الفكري.
بالنسبة للبلاد المصنفة على انها "شبه حرة"، فهي تبدو أقل اقتناعا بأن طريق الحرية هو بوابتها إلى المستقبل، مما يجعلها تقع في حالة من التردد حيال التحرك المناسب الذي ينبغي عليها القيام به.
أما في الغرب، فيسارع صانعوا القرار للاعتراف بالانتكاسات التي تعاني منها الديمقراطية، مقرين في نفس الوقت بأن الانتخابات التنافسية تسبب ضررا إضافيا إذا ما غابت عنها الشروط الأخرى اللازمة لنظام انتخابي فعال. تلك المسالة هي مؤشر للمرحلة التي تحدث عنها الصحفي البريطاني "همفري هوكسلي" في كتابه "الديمقراطية المرة: ما الميزة التي يحملها التصويت؟".
هناك رأي معارض لفكرة الترويج للديمقراطية الانتخابية على حساب الأهداف الأخرى، وهو الاتجاه الذي عبر عنه عدد من الملاحظين. «بول كوليير»، الأستاذ بجامعة أوكسفورد، يرى أن تطبيق الديمقراطية في غياب عدد اخر من المقومات المرغوب فيها ـ كسيادة القانون ـ من شانه أن يقوض تقدم أي أمة. يبنما يرى «مارك مالوك براون»، المدير السابق لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، أن الديمقراطية هي المحرك للتقدم الاقتصادي، ولكنه في نفس الوقت يؤمن بأن في بلد مثل أفغانستان، كان تركيز الغرب على الإجراءات الانتخابية أكثر من المطلوب ـ مثل الاهتمام الزائد بتعدد الأحزاب المشاركة ـ دون إدراك أن هناك طرق أخرى للحصول على الإجماع.
أما «راندال بيرينبوم» فيدافع عن النموذج الشرق أسيوي، حيث يأتي التقدم الاقتصادي قبل الديمقراطية.
ولكن مهما قال الجهلة، لاتزال هناك أسباب واضحة لتراجع الحماس الغربي لنشر الديمقراطية وميل الدول الأخرى لعدم الإصغاء. فعلى معظم الأصعدة (وبالذات في الغرب)، كان الغزو الأمريكي للعراق وما تبعه من دمار بمثابة تأكيد لشكوك الشعوب حول الديمقراطية كهدف للسياسة الخارجية الأمريكية، حيث أصبح هناك اقتناع بوجود نية سيئة وراء تلك الفكرة.
وفي أفغانستان؛ حيث شنت أمريكا حربا أخرى باسم الحرية، أصبحت الحملة العسكرية هناك مصدر حرج كبير مع تفشي الفساد والانحلال بين النخبة السياسية في البلاد.
وفيما يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط، شهدت الخطة الديمقراطية الأمريكية سقطة أخرى في عام 2006، بعد أن فازت حركة حماس بالانتخابات الفلسطينية.
الاتحاد الأوروبي هو الأخر شهد تضاؤلا في "قوته الناعمة" في الجانب الشرقي للقارة، فيما زادت حالة الاعياء مع محاولات توسعة عضويته.
ولكن يبقى السبب الأقوى لتراجع تأثير فكرة الديمقراطية هو النهضة التي تشهدها الصين، ورغبة الغير في تقليد ذلك النموذج الذي يضمن التقدم الاقتصادي دون التفريط في مقاليد السلطة.
وبالنظر للمنطق السياسي للأنظمة الاستبدادية، فإن مظاهر الافتتان بالنموذج الصيني سهلة الملاحظة. فحزب البعث الحاكم في سوريا على سبيل المثال يتحدث عن نظام لاقتصاديات السوق يقوم على أسس اشتراكية ويحافظ في نفس الوقت على الاستقرار.
جمهورية فيتنام الشيوعية هي الاخرى اتبعت خطى الصين في مجال الإصلاح الاقتصادي، إلا أنها لا تزال إحدى الدول التي انتقدها تقرير "فريدوم هاوس" لفرضها القيود على الحريات. حتى إيران قامت باللجوء إلى خبراء اقتصاديين وقانونيين صينيين، صحيح أن هناك حدودا للتعاون بين جمهورية إسلامية ودولة شيوعية، إلا أنه من الواضح أن كلا الطرفين متفقان على الشيء الواجب تجنبه، ألا وهو الحرية على الطراز الغربي. كوبا هي الأخرى تمسكت بالأفكار الماركسية في الوقت الذي أبدت فيه اهتماما بالإصلاح الاقتصادي الصيني.
طبقا لوجهة نظر العديد من الدول الفقيرة، وخصوصا في إفريقيا، يعتبر التعاون السياسي والاقتصادي مع الصين أمرا يحمل العديد من المزايا، أهمها أن الصين تنأي بنفسها عن إعطاء دروس في حقوق الإنسان والحرية السياسية.
أما السبب الأخر في جاذبية النموذج الصيني فهو نجاح تلك الدولة في العبور بسلام من الأزمة المالية العالمية. النجاح الصيني وصلت أصداؤه كذلك إلي منطقة وسط آسيا، ولكن حركات الانشقاق في تلك المنطقة لا تنزعج من النفوذ الذي تتمتع به الصين وحسب، ولكن أيضا للغضب الذي تسببه للحكومات الغربية التي غالبا ما توازن بين التزاماتها الأخلاقية ومصالحها التجارية.
وإذا سلمنا بأن الديمقراطية ليست لديها فرصة للتقدم هذه الأيام، سواء بواسطة التفوق العسكري أو الاقتصادي الغربي، فإن الأمل الحقيقي المتبقي هو إجراء نقاش واضح ومفتوح حولها. بمعنى آخر، هناك حاجة لإقناع الدول المترددة والمشككة بأن الديمقراطية هي أفضل طريق.
إذا، ما هو الموقف الحالي للحملة المدافعة عن الديمقراطية؟ مثلما قال العديد من المفكرين، فإن أقوى الآراء التي تصب في صالح التنافس السياسي النزيه هي آراء سلبية. أي أن الديمقراطية قد لا تأتي بسياسات مثالية، إلا أنها تعمل كحماية ضد كثير من الضرر (بدءا من الطغيان الذي قد يصيب أكثر الحكام اعتدالا، وانتهاء بالسرقة على حساب العامة).
منظمة الشفافية الدولية كشفت عن أن 30 دولة هي الأقل فسادا في العالم تضم فيما بينها دولتين فقط لا تطبقان نظاما ديمقراطيا، هما سنغافورة وهونج كونج، واللتان تصنفان كبلدان "شبه ديمقراطية". وغالبا ما تحتل الدول الأوتوقراطية المراكز الأولى في قائمة الدول الأكثر فسادا (الصين تحل مركزا وسطا) ومن السهل أن نعرف السبب.
فالنخب السياسية الثابتة في مناصبها بتلك الدول بوسعها الهرب بما تنهبه بكل سهولة، فضلا عن اعتماد اصحاب السلطة على المال العام لإجزال العطايا على مؤيديهم وشراء أعدائهم، مما يربك عملية تخصيص الموارد ببلادهم بشكل كبير.
العثور على نموذج للدول الديمقراطية المليئة بالفساد يصبح أمرا سهلا إذا نظرنا إلى بلد في حال مزر كأفغانستان؛ حيث تزيد الانتخابات الطين بلة. وهناك أيضا دول الاتحاد السوفيتي السابق، فروسيا على سبيل المثال دولة استبدادية ويمثل الفساد بالنسبة لها مشكلة عويصة؛ أوكرانيا في طريقها إلى أن تصبح أكثر ديمقراطية، حيث إنها على أعتاب انتخابات نزيهة لا يمكن توقع نتائجها، إلا أنها هي الأخرى تعاني من ذات المشكلة السابقة.
ولكن ماذا عن الرأي القائل بأن النمو الاقتصادي يسهل تحقيقه في وجود حاكم مستبد إلى حد ما، ولو في أولى مراحله على الأقل؟.
في إحدى المناسبات، قال "لي كوان يو"، رئيس الوزراء السنغافوري السابق، إن الديمقراطية "تؤدي إلي التصرف غير المنظم" وتعوق التقدم المادي.
ولكن ليست هناك أدلة على أن النظم الأوتوقراطية تنمو بشكل أسرع من نظيراتها الديمقراطية. فمثلما هناك دول آسيوية سارت من قبل على النظام الأوتوقراطي كتايوان وكوريا الجنوبية، فهناك على الجانب الاخر دول مثل مصر والكاميرون (بل وكوريا الشمالية و ميانمار)، تتسم بالوحشية و البلادة في آن واحد.
من الصعب إيجاد صلة بين التقدم الاقتصادي والديمقراطية، إلا أن هناك أدلة على أن النظم الديمقراطية تؤدي بشكل أفضل، وقد قام كل من "مورتون هالبيرين"، و"جوزيف سيجل"، و"مايكل وينشتاين" بعمل دراسة لصالح مجلس العلاقات الخارجية، اعتمدوا فيها على بيانات صادرة عن البنك الدولي في الفترة ما بين 1960 و2001. هذه الدراسة وجدت أن متوسط النمو الاقتصادي بلغ 2.3 في المائة بالنسبة للدول الديمقراطية، بينما توقف في الدول غير الديمقراطية عند 1.6. أما الدراسات الأخرى في هذا الصدد فلم تكن واضحة بما يكفي.
الذين يؤمنون بأن الديمقراطية هي المحرك للتقدم غالبا ما يبنون رأيهم على فكرة أن المجتمع القائم على المعرفة في حاجة إلى مناخ من الحرية، بحيث يلعب الاستقلال الفكري والإبداع دورا حيويا. بالتاكيد ليس من قبيل المصادفة أن الدول الخمس وعشرين المتصدرة لقائمة تصنيف مؤشر الابداع العالمي هي دول ديمقراطية، باستثناء سنغافورة وهونج كونج. وتحتل الصين المركز السابع والعشرين من ذلك التصنيف، مما يجعلها استثناءا من تلك القاعدة. فقد أحدثت العقلية الصينية طفرات ملموسة في مجال الحاسب الآلي والتكنولوجيا الزراعية والفضاء. وبرز إصرار السلطات الصينية على فرض شروطها في ثورة المعلومات هذا الأسبوع؛ حيث قالت إدارة محرك البحث "جوجل" إنها سوف تنسحب من الصين بسبب هجوم إلكتروني تعرض له ناشطين حقوقيين.
كانت "جوجل" قد أذعنت لإصرار الصين على فرض رقابة على بعض نتائج البحث، وذلك منذ بدأ توفير خدمة "جوجل" في البلاد عام 2006.
المعجبون بسياسة اليد الحديدية التي تنتهجها الصين يؤمنون بقدرتها على التكيف بدون وجود "جوجل"، و التي كان ينافسها محليا محرك الصيني "بايدو". ولكن المؤكد أن سياسة تضييق الخناق على محركات البحث سوف تؤدي على المدى المتوسط إلى توقف المساعي الإبداعية. كما أنه من الخطأ أن تتصور أي دولة أنها سوف تحقق لنمو الذي حققته الصين إذا مارست نفس الاستبداد الذي تنتهجه.
فماذا عن الرأي القائل بأن الأوتوقراطية توفر قدرا يسيرا من الاستقرار اللازم لعملية التنمية؟. الواقع يؤكد أن الدول الشمولية لا تتمتع باستقرار أكبر من نظيراتها الديمقراطية. بل على العكس. فعلى الرغم من أن السياسيون في الأنظمة الديمقراطية يقضون كثيرا من الوقت في الاختلاف والتناقش، إلا أن ذلك الاختلاف يأتي بالاستقرار على المدى المتوسط، حيث أن ذلك يسمح باستيعاب جميع الآراء قبل اتخاذ القرار.
تصدر جامعة «جورج ماسون» الأمريكية تقييمها السنوي الذي يعرف باسم "مؤشر ضعف الولاية" ((state fragility index. والذي يركز على نقاط متنوعة كفعالية النشاط السياسي والمسائل الأمنية في كل ولاية. وقدا أثبت هذا التقييم هو الآخر أن النظم الديمقراطية تؤدي بشكل أفضل من غيرها.
يوغوسلافيا على سبيل المثال تمتعت بالاستقرار في عهد الرئيس «جوزيف تيتو»، مثلها مثل العراق تحت حكم «صدام حسين». ولكن ما إن تماسك نظامي الحكم في بلديهما، إلا وانطلقت الضغوط المكبوتة، وأصبحت هناك فرصة ذهبية للخطباء الحماسيين ذوي النزعة التدميرية.
ولكن على الأقل، فإن الميزة التي تتسم بها النظم الديمقراطية هي وجود ثقافة تعتمد على الوصول إلي الحلول الوسط، إلي جانب نظام المساءلة وفرض قيود على سلطة الدولة، مما يجعل الديمقراطية ضمانا لتجنب النتائج الكارثية والجرائم.
لقد أصبحت بعض الكوابيس المهلكة ـ كمبدأ الجماعية الاقتصادي الذي انتهجه الاتحاد السوفيتي، ومشروع القفزة العظيمة إلى الأمام الذي تبنته الصين ـ حقيقة واقعة عندما أصبحت السلطة متركزة في يد مجموعة صغيرة من البشر لا تواجههم أي قيود. ربما تقترف الحكومات الديمقراطية المتحررة أي نوع من الأخطاء، ولكن لا شك أنها لن ترتكب مثلا جرائم قتل جماعية.
«امارتيا سن»، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، كان دائما ما يجادل بالقول بأن التاريخ لم يشهد على الإطلاق بلدا ديمقراطيا يحترم حرية الصحافة ونزاهة الانتخابات يعاني من المجاعة. كما أن البحث الذي قام به العاملون بمجلس العلاقات الخارجية وجد أن فرصة الدول الأوتوقراطية في التعرض للأزمات الاقتصادية تزيد على فرص الدول الديمقراطية بمقدار الضعف (وذلك الانهيار الاقتصادي يقدر بـ10 في المائة أو أكثر كانخفاض في الناتج القومي).
كذلك، فان الحكومات المنفتحة والتي تهتم بإجراءات المساءلة تأتي بسياسات إيجابية على المدى البعيد. وهذا مرجعه إلى أنها لا تسمح لأي مجموعة من أهل النخبة التابعة للنظام بأن تقرر ما هو الأفضل لمستقبل المجتمع، مهما بلغ مستوى علمهم وجاذبية آرائهم.
أما بالنسبة للنظم الأوتوقراطية، فإن تمسكها بالبقاء على القمة، فضلا عن شعورها بجنون العظمة وتحريها للسرية، يجعلان من الصعب خروج الآراء المخالفة لها إلى النور.
وبعيدا عن كل الاعتبارات، فإن الانتخابات تعطي فرصة أفضل لتداول السلطة بشكل شرعي وسلس. أما نظم الحكم الاستبدادية، فهي تظن أنها تنعم بالاستقرار ببقائها تتح قبضة رجل واحد، رغم أن الواقع يقول إنها قد تنزلق إلى حالة من عدم الاستقرار، بل والفوضى الدموية إذا خرجت عملية تداول السلطة عن طريقها الصحيح.
كما يعني إجراء انتخابات نزيهة أن تصحيح الأخطاء السياسية سيتم بشكل سريع، ويمكن استبدالها بأفكار جديدة، كما تضمن حرمان السياسيين من السلطة قبل أن يتمكن الاستبداد منهم.
ولكن الدرس الذي يمكن تعلم من هذا التراجع العظيم في الممارسة الديمقراطية هو أن صناديق الانتخابات ليست كافية بمفردها. فيما لم تشن التشريعات التي تحمي حقوق الفرد والأقليات، وما لم يتم الحد من السلطة الممنوحة للانظمة الحاكمة من خلال متابعة صادقة، فقد تؤدي الانتخابات التنافسية النزيهة إلى "طغيان الأغلبية"، وهو التعبير الذي استخدمه الفيلسوف الفرنسي "أليكسس دي توكفيلي". و هذا الاحتمال وارد في دول تتضمن إشكالا مختلفة من الإسلام السياسي، والتي قد تضمن فرصة الوصول إلي السلطة في حالة إتاحة التنافس المفتوح. في مثل تلك البلاد، تضم فئة الأقلية المسلمين المنشقين الذين يفضلون الأمان النسبي الذي يوفره نظام الحاكم المستبد.
التحذير الأخر الهام هو أن الديمقراطية لم يكتب لها الاستمرار في الدول التي لا تعتمد اقتصاديات السوق. فوجود نظام حكم مدمن للهيمنة والتدخل في كل الأمور قد يغري الحكام في مثل تلك البلاد باستخدام تلك السيطرة ضد خصومهم السياسيين. هذه السيطرة الكاملة تؤدي إلى إفراغ مضمون ما يطلق عليه المفكر المجري «استفان بيبو» "الدوائر الصغيرة" للحرية (كالاتحادات الحرة ومراكز القوى المستقلة التي يسمح بها الاقتصاد الحر).
كما تساعد اقتصاديات السوق على نشأة الطبقة المتوسطة الأقل عرضة لضغوط الدولة والهيمنة السياسية. ربما كان الشأن الأهم هو حاجة الديمقراطية إلى قادة لديهم استعداد وميل لايجاد الحلول الوسط، وهو ما يصفه «وولتر بيجهوت»، محرر الإيكونومست في القرن التاسع عشر، بأنه "الاستعداد للتنازل عن شيء أكثر من الإقبال على التحكم كليا في شيء آخر".
وبدون ذلك الميل للتسامح وإدارة الخلافات، ستدخل الفرق المتنازعة في سباق يؤدي إلى تقلص العملية الديمقراطية إلى مجرد نزاع وحشي على السلطة يؤدي في نهاية الأمر إلى تلاشي المؤسسات التي تحترم الحرية.
كل ذلك مفاده أن الديمقراطية لديها احتمالات أكبر للنجاح في الدول التي تسودها مشاعر الانتماء، والتي تخلو أيضا من التوترات العرقية التي قد تحول التنافس السياسي إلى صراع مسلح. ولكن ذلك لم يكن الحال في يوغوسلافيا في فترة التسعينات ولا لبنان في فترة السبيعنات.
لن تسود الديمقراطية كذلك ـ ولو توافرت جميع الظروف المناسبة ـ إذا لم يثبت المدافعون عنها نجاحا وهم في سدة الحكم، فلا دستور يستطيع أن يضمن بمفرده نجاح السلطة. فمثل ذلك النجاح لابد أن ينعكس على توفير الاحتياجات الأساسية كالأمن والعدالة والرخاء. وفي الدول التي تواجه فيها الديمقراطية بحالة من الترنح والتردد، يصير صوت المدافعين عن الديمقراطية أو المشككين في جدواها أعلى أقل بكثير من الضغوط اليومية التي تمثلها مثل تلك المتطلبات.
في العاصمة الأفغانية كابول، يتحدث "جامشيد" عامل أجير، عن عيوب و مزايا الاحتلال الاجنبي للبلاد. فيقول انه بالمقارنة مع الحياة تحت حكم طالبان، هناك حرية أكبر في الاستماع إلى الموسيقى والخروج بصحبة الزوجات، فضلا عن أن المرء يدرس ما يشاء ويفعل ما يحلو له. و لكنه في نفس الوقت لا يستطيع نسيان انه تحت حكم طالبان "كان الباعة يتركون محالهم مفتحة الابواب ويذهبون إلى الصلاة دون خوف من سرقتها". الآن، والقول لا يزال لـ"جامشيد"، "الحكومة كلها فاسدة وتستولي على أموالنا".
"جامشيد" لم يسبق له أن قرأ كتابات "جون ستوارت ميل" أو "إيان راند"، ولكن سواء خضع لحكومة دينية أو لحكومة مدعومة من الغرب، فهو مدرك لما يريده.
نقلا عن صحيفة الإيكونوميست *