x

«المصري اليوم» في قرية «الثأر والرصاص».. الدراسة تحت طلقات الرشاشات

الجمعة 26-10-2012 19:19 | كتب: اخبار |
تصوير : نمير جلال

بمجرد أن تسمع «آية» الطفلة الصغيرة، التى لم يتجاوز عمرها 11 عاماً، صوت طلقات الرصاص، تلقى بجسدها النحيل، أسفل «الدكة» الخشبية المتهالكة التى تجلس عليها بالفصل، تتمتم بما تحفظه من آيات قرآنية وتدعو ربها أن ينجيها، تظل على هذا الحال دقائق أو ساعات، لا تسمع خلالها إلا صوت الرصاص، وبكاء وصراخ بعض زملائها.

انقطعت «آية» عن الدراسة عدة أيام، بسبب إطلاق الرصاص العشوائي، فى الطرقات المؤدية للمدرسة، تودعها والدتها فى الصباح وهى تعطى لها التعليمات، بأن تنتبه جيداً لنفسها أثناء ذهابها وإيابها للمدرسة، تظل الأم قلقة إلى أن تعود طفلتها للمنزل.

اعتاد طلاب مدرسة «خلف كيلانى الابتدائية» على هذه اللحظات الصعبة، حتى أصبحوا يتمتعون بنوع من الجرأة المطلوبة هنا فى قرية الشيخ خلف، التى تعرف باسم «قرية الثأر»، إحدى قرى القصير التابعة لمركز القوصية بمحافظة أسيوط.

تستطيع أن ترى أثناء تجولك بالقرية، الواقعة فى حضن الجبل؛ أثار الرصاص على جدران المنازل، وفوارغ الطلقات، التى انتشرت فى طرقات ودروب القرية الضيقة، يجمعها الأطفال للعب بها.

تفتقد القرية لكل مقومات الحياة «فقر وبطالة ومرض»، وعائلات تتصارع من أجل البقاء، من الصعب أن تجد من يتحدث إليك، خاصة بعد أن اشتعلت الأحداث داخل القرية والقرى المجاورة بسبب انتشار السلاح.

«لو سمحت لا تذكر اسمى حتى لا يتربص بى أحد ويقتلنى»، كان ذلك شرط أحد أهالى القرية قبل أن يتحدث إلينا، فكما يقول: «القتل يحدث لأتفه الأسباب»، قالها بعد أن أخذ نفساً طويلاً، وهو يتذكر أحد الأشخاص كتب رسالة استغاثة على «الفيس بوك»، طلب فيها تدخل وزارة الداخلية، وذكر فيها بعض أسماء العائلات المتناحرة فكان جزاؤه القتل.

عزبة خلف هى واحدة من 24 عزبة، تابعة لقرية القصير بها عشرات العائلات المتصارعة، بدأت الخلافات الثأرية فى عزبة خلف- كما يقول أحد أبناء القرية- منذ منتصف القرن الماضى، وما إن تهدأ الأمور حتى تعود للاشتعال مرة أخرى.

كانت وزارة الداخلية تتدخل بقوة، لجمع السلاح وإنهاء الخصومات الثأرية، ولكن بعد الثورة وحدوث الانفلات الأمنى، اشتعل سباق التسليح بين العائلات، فتحولت هذه القرى الفقيرة فى صعيد مصر، لسوق مزدهرة لتجارة السلاح المهرب من ليبيا والسودان، عبر دروب الصحراء والجبال المتاخمة لقرى الصعيد، فلا يخلو منزل من السلاح لاستخدامه فى الثأر أو للردع.

«محمد» شاب فى بداية العشرينيات من عمره، يرتدى قميصاً وبنطلوناً، لا يزال يؤدى الخدمة العسكرية، يعمل فى وقت الإجازات ميكانيكى سيارات بورشة صغيرة بالقرية، بسبب تبادل النار المستمر بين العائلات، أصبحت الطرق المؤدية للقرية مهجورة لخطورتها، فانقطع الزبائن عن الورشة التى يعمل بها.

يقول محمد: «استبدل أهالى القرية العصى للهش بها على دوابهم بالسلاح الآلى، وبعد الثورة انتشرت أنواع جديدة من السلاح بالقرية، مثل السلاح المتعدد الذى يطلق عليه الأهالى (أبوساقية أو أبوشريط)، والسلاح الآلى الروسى بأنواعه 51-52، والإسرائيلى، بالإضافة للقنابل اليدوية التى وصل سعرها الآن 300 جنيه فقط لعدم إقبال الأهالى عليها لصعوبة استخدامها» .

يواصل محمد حديثه: «تختلف أسعار السلاح من قرية لأخرى، حسب اشتعال الأحداث بها، فعندما تهدأ الأحداث بالقرية، ينخفض سعر السلاح، وعندما تشتد الخصومات الثأرية، يرتفع سعره بشدة ويقفز ثمن طلقة الرصاص من 12 إلى 18 جنيها للطلقة الواحدة، وتقوم بعض العائلات بإطلاق نار، يكلفها 100 جنيه يومياً وقت الاشتباكات، ويستوجب على العائلة الأخرى أن ترد» .

بصحبة أحد الأهالى تمكننا من الدخول للقرية، والوصول لمدرسة خلف الابتدائية التى تقع فى أطراف القرية وعلى خط التماس بين عائلتين متنازعتين، بعد أن سلكنا طريقا خلفيا حتى لا نلفت الأنظار إلينا، بالرغم من ذلك كانت العيون ترمقنا فى كل مكان نذهب إليه، فأهالى القرية يعرفون بعضهم جيداً والكل هنا فى حالة ترقب وحذر.

فى مكتب مدير المدرسة، أحاط بنا عدد من المدرسين والإداريين، فى حالة من الغضب بسبب المخاطر التى يتعرضون لها يومياً، أثناء ذهابهم وإيابهم للمدرسة بسبب الخصومات الثأرية، وتكرر إطلاق النار أثناء تواجدهم داخل المدرسة.

«بسبب المشاكل والثأر، لم أكمل تعليمى الجامعى، أشقائى الذكور ماتوا بسبب الثأر وكنت فى الثانوية العامة وتوقفت عن الدراسة» بهذه الجملة بدأت هناء محمد إحدى المدرسات بالمدرسة حديثها معنا، هى امرأة فى أواخر الثلاثينيات تتشح بالسواد، يبدو على قسمات وجهها علامات الحزن والأسى، وقد ملأت عينيها الدموع وهى تتحدث.

مأساة «هناء» تتكرر كل يوم، أطفال يتامى وآخرون يمنعون من الذهاب للمدرسة، فبمجرد وقوع جرائم الثأر، ينقطع أولاد العائلات والأسر المتناحرة عن الذهاب للمدرسة، ويشارك بعضهم فى المعارك التى تجرى بين العائلات، بعضهم يحمل السلاح، والآخر يحمل «الخريطة» وهى عبارة عن شنطة جلدية، تحمل بدخلها الذخيرة.

التقطت إحدى المدرسات بالمدرسة، أطراف الحديث تدعى عصمت خلف قائلة: «يوجد سيدات وأطفال يموتون لعدم تمكننا من نقلهم للمستشفى بسبب إطلاق النار العشوائى، حيث لا يوجد بالقرية وحدة صحية، وتنتشر العقارب والثعابين بالقرية لقربها من الجبل». تكمل «عصمت» حديثها: «منذ فترة توفى طفل صغير بسبب لدغة عقرب ولم نتمكن من نقله إلى المستشفى المركزى بالقوصية بسبب إطلاق النار وإغلاق الطرق» .

وكشف الأهالى عن مصدر تمويل السلاح بقولهم: «يوجد بالجبل مدقات وكهوف، يختبئ فيها بعض المطلوبين أمنياً والهاربين من الثأر بعد ارتكاب جرائمهم، قبل الثورة وحدوث الانفلات الأمنى، كانت الشرطة تحاول اقتحام هذه الزراعات، ولكن قبل أن تتمكن الشرطة من عبور النيل للبر الشرقى، كانت تحصد هذه الزراعات وتخفى فى الجبل، أما بعد الثورة فقد توسعت هذه الزراعات بشدة للإنفاق على شراء السلاح» .

لا يزال أحمد أسامة الطالب الصغير، بمدرسة عزبة خلف الذى لم يتعد عمره 10 سنوات، يتذكر أول مرة سمع فيها إطلاق النار عندما كان فى الحضانة، يقول أحمد: «عندما نسمع طلقات النار ينزل الجميع أسفل (الدكة) ويغلق الفصل ويعطى لنا المدرس التعليمات بعدم رفع رؤوسنا والابتعاد عن الشبابيك» يقضى أسامة مع زملائه أوقاتا عصيبة، وبعد انتهاء ضرب النار تستأنف الدراسة بشكل عادى» .

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية