بصيحات التكبير وبِجُمل مصرية خالصة، انتفض قلب قطاع غزة فرحًا، مُنعوا منه عقودًا طوالًا، متجاهلًا خوفًا جرى في دماء القطاع لسنوات، وبالألعاب النارية نفسها التي تباع على أرصفة القاهرة، نظر أهل «التفاح وتل السلطان والشجاعية والشيخ رضوان وتل الهوى والصبرة والدرج والرمال والزيتون» إلى السماء ليشاهدوها تُضيء ليلًا للمرة الأولى دون غارات جوية، كما رقص أطفال مخيمات «خان يونس، جباليا، والشاطئ، والنصيرات» حفاة على أغنية «علّي الكوفية علّي» بصوت العربي الفلسطيني محمد عساف، الفائز بلقب Arab Idol، بعد منافسه قوية مع منافسه العربي المصري أحمد جمال.
استفاد «عساف»، المولود في ليبيا بعد عامين من إعلان تأسيس حركة «حماس» عام 1987، من استماع والده الدائم لكبار المطربين العرب، ليتشكل وجدانه موسيقيًا منذ طفولته دون أن يعي أن شغفه الفني سيكون السلاح، الذي سيخوض به مستقبلًا حربًا معنوية شرسة داخل أراضي «غزة»، وقبل أن يدرك أيضًا أنه سيكون يومًا رمزًا لقهر الخوف لشباب القطاع القابع في ظلام الكهرباء وظلام الفكر والإبداع.
نص الجزء الأخير من البند الثاني لميثاق «حماس» الذي أصدرته الحركة في أغسطس عام 1988، على أن «حركة المقاومة الإسلامية (حماس) من أجنحة الإخوان المسلمين بفلسطين، وتمتاز بالفهم العميق لشتى مجالات الحياة في السياسة والاقتصاد، في التربية والاجتماع، في الفن والإعلام»، إلا أن الحركة وعكس ما أعلنته، فرضت سطوتها على القطاع ومنعت كل ما أفردت له في بندها الثاني، وأضحى كل ما تقرره غير قابل للتفاوض.
غادر «عساف» ليبيا مع والديه، قبل أن يبلغ الرابعة وعاد إلى فلسطين، مسقط رأس العائلة، وهناك، تسرب إلى مسامعه دوي الانفجارات وطلقات الرصاص للمرة الأولى في مخيم «خان يونس»، حيث نزل وعائلته، ليبدأ إيمانه يتشكل بالقضية الأم، وتتراءى أحلامه أمام ناظريه بتحرير وطنه من العدو مغتصب الأرض، ومن ابن الوطن قاتل الإبداع والفكر، وكأن القدر كتب له أن يخوض حربه المعنوية ضد قوى الظلام من أرضه التي عاد إليها وليس خارج حدودها حيث ولد.
في الخامسة من عمره، ظهرت أولى مواهب «عساف» بعد إبداء رغبته بالمشاركة في الإذاعة المدرسية خلال المرحلة الابتدائية صباح كل يوم، قبل أن يذاع صيته بين أبناء مدرسته، بعد اكتشافهم موهبته خلال رحلة مدرسية، مما دفعهم للاستماع الدائم إليه، وهو ما كان حافزًا له ليطل على الجمهور الفلسطيني للمرة الأولى بأغنية «شدي حيلك يا بلد»، وهو لا يزال في الحادية عشرة من عمره.
في سبتمبر 2011، منع الإعلام المركزي بحكومة إسماعيل هنية، 20 متسابقًا من التوجه إلى الأردن، للاشتراك في برنامج لاكتشاف المواهب الفنية، رغم اجتيازهم اختبارات المرحلة الأولى التي أقيمت في «بيت لحم»، ورغم محاولات إدارة البرنامج للتدخل لدى الحكومة، فإن المفاوضات لم تصل إلى شيء، وحينها وصف مسؤول إعلام حكومة «حماس» المُقالة، حسن أبو حشيش، هذا البرنامج لوكالة الأنباء الفلسطينية «معا»، بأنه «ساقط، ولا يتناسب مع مشاعر وتقاليد المجتمع الفلسطيني»، معتبرًا في الوقت ذاته أن «الغناء يعكس أهواء قلة وليس الغالبية العظمى من المجتمع»، إلا أن تصريحًا قصيرًا ومقتضبًا لموظف داخل المحطة لصحيفة «يديعوت أحرونوت» أوضح حقيقة رفض «حماس» عندما قال إن «الحكومة أبلغت إدارة المحطة بأنها تريد الحفاظ على صورة غزة التي يكافح أهلها ويقاتلون ضد الاحتلال، لا الذين يغنون ويرقصون».
بعد إتمامه عامه الثاني عشر، بدأ «عساف» الإفصاح عن مشاعره الوطنية، فأتبع أغنية «شدي حيلك يا بلد» بعدد من الأغنيات، منها لرئيس السلطة الفلسطينية الراحل ياسر عرفات، وأخرى للجبهة الشعبية، وثالثة للأسير المحرر خضر عدنان، وكأنه يستشرف المستقبل متوقعًا اتهامه بالمتاجرة بالقضية الفلسطينية بعد 13 عامًا أثناء خوضه منافسات Arab Idol، لتمسكه بتوجيه تحية إلى المعتقلين الفلسطينيين داخل السجون الإسرائيلية، ومطالبته بتحرير الأرض كلما تأهل إلى مرحلة جديدة خلال البرنامج.
أعلنت وزارة الشباب والثقافة بحكومة «حماس»، على لسان متحدثها فكري جودة، تنظيم حفل استقبال رسمي للفلسطيني محمد عساف لدى وصوله قطاع «غزة» عبر معبر رفح البري، وأشارت إلى أن وفدًا ممثلًا من المدراء العامين بالوزارة سيشارك في حفل استقبال «عساف»، بالإضافة إلى اللجنة الخاصة التي دعمته خلال مشواره، إضافة إلى ممثلين عن عائلته، مؤكدًا أنه سيتم عقد مؤتمر صحفي عقب انتهاء حفل استقباله الشعبي، في إشارة واضحة منها إلى الاعتراف بالغناء الذي سبق ووصفه أحد قادتها بأنه «ليس مطلب الأكثرية».
رحلة «عساف» نحو لقب Arab Idol استغرقت 48 ساعة قبل تمكنه من التقدم للاختبارات التأهيلية للبرنامج، بدأها مغادرًا «غزة» من معبر «رفح» متنفسها الوحيد على العالم، ومنها إلى مدينة 6 أكتوبر، ليقفز سور الأوتيل الذي وصله بعد إغلاق باب القبول لانتهاء بطاقات، قبل أن يهديه مواطن فلسطيني بطاقته إيمانًا بموهبته لوجود سابق معرفه بينهما، لتسمح له اللجنة التوجه إلى بيروت ليستمع راغب علامة، نانسي عجرم، أحلام، وحسن الشافعي إلى صوته للمرة الأولى.
أقسم «عساف» ودموعه تنسال على وجنتيه بعد تنصيبه، أنه لم يكن يتخيل ولو للحظة أن يفوز باللقب لتنافسه مع المتسابق المصري أحمد جمال، الذي وصفه بـ«القوي»، رغم أنه لو يعلم توقع متابعي البرنامج المصريين فوزه لكان أسعد الرابحين، ويا ليته شاهد وجوه المصريين وابتساماتهم عندما نقلت كاميرات البرنامج احتفالات غزة، ورام الله، والناصرة، بعد إعلان تنصيبه، ليتأكد من حب المصريين له وسعادتهم لمشاهدة أهل غزة وهم يرقصون فرحًا للمرة الأولى، مساويًا تمامًا لفوز أحمد جمال باللقب.
«سجدة» محمد عساف على مسرح Arab Idol بعد إعلان فوزه لم تحرر فلسطين، وحصوله على اللقب لن يصلح ما أفسده خمر السلطة بين «فتح» و«حماس»، تمامًا مثل خسارة أحمد جمال وفرح يوسف التي لن تتسبب في إفساد الحياة السياسية في مصر وسوريا بقدر أكبر مما هي عليه الآن، إلا أن فوزه أدخل البهجة على أهل «غزة» بقدر لم نشاهده من قبل، والأهم أنه أثبت لسلطة القطاع الحاكمة أن الإبداع له مريدوه مثل مريديهم، وأن على الجميع احترام الفن والثقافة بإرادته بدلًا من الضغط الشعبي، لأن المحب للإبداع لابد أن يبحث له عن متنفس، حتى ولو في آخر العالم.