طالب حقوق في قلب مدينة النور «باريس»، يقرأ كتاباً لجوزيف برودون، فيتغير مصيره، وشاب آخر في القاهرة يقرأ كتابًا عن السينما، فيتغير مصيره، ومابين كتاب وثورة خاسرة ولدت أحلام فنانين أسسوا مدارس للواقعية في عالمهم، «جوستاف كوربيه» المولود عام 1819، وصلاح أبو سيف المولود في عام 1915، فما بين الانتكاسة للثورة التي أطاحت بالنظام الملكي الفرنسي سنة 1789، والتي ساهمت في تحولات سياسية واجتماعية كبرى في تاريخ أوروبا، ثم جاء «نابليون بونابرت» عام 1799 وأعاد الملكية ووضع نفسه إمبراطورًا على فرنسا، وثورة 1919 في مصر، وعودة سعد زغلول من المنفى ووضع دستور 1923 والانقلاب عليه في 1936، عاش الفنانان.
تمرد «كوربيه» على المدرسة الكلاسيكية، واهتم بمشاكل المجتمع وذهب إلى رسم العمال والفلاحين والفقراء، واعتبر الرسم فنًا ملموسًا ولا يمكن أن يعبر إلا عن الأشياء الواقعية كما هي دون تجميل، بينما استقى صلاح أبو سيف أصول المدرسة الواقعية من أستاذه كمال سليم قبل أن يطور مفرداته ويؤسس المدرسة الواقعية في السينما المصرية.
ربما كانت ماكينات مصانع غزل المحلة ملهمة، وربما لم يغب هديرها وعمالها عن مخيلة صلاح أبو سيف يوما، ولهذا وبعد انتقاله عن طريق المخرج نيازي مصطفى للعمل في المونتاج في استوديو مصر، لم ينفصل يوماً عن مجتمعه، وبعد تقديم عمله الأول «دائماً في قلبي» من بطولة عقيلة راتب وعماد حمدي عام 1946 بعد عودته من روما وتأثره بالسينما الواقعية الإيطالية، قدم أول أفلامه الواقعية عام 1951 من إنتاجه بعد أن رفضه النقاد، خوفا من عدم نجاحه، ليحقق فيلم «لك يوم يا ظالم» نجاحاً كبيرا يسمح بتقديم «الأسطى حسن» عام 1952عن قصة لفريد شوقي وسيناريو وحوار السيد بدير و«أبو سيف» والبطولة لفريد شوقي وهدى سلطان، وفيلم «الحب بهدلة» لمحمد أمين وهدى شمس الدين، ثم «ريا وسكينة» في 1953 لأنور وجدي وإسماعيل ياسين، فـ«الوحش» عام 1954 لسامية جمال وأنور وجدي ومحمود المليجي، ثم قدم في عام 1957 «شباب امرأة» لشكري سرحان وتحية كاريوكا وشادية و«الفتوة» لفريد شوقي وتحية كاريوكا وزكي رستم.
رسم «كوربيه» لوحة «جنازة أورنانز» 1850 وقد أحدثت هذه اللوحة جدلا بين الأوساط الاجتماعية، حيث رسم الفلاحين جنبًا إلى جنب مع الأغنياء والقساوسة وفي الحجم الطبيعي، ومنذ ذلك الحين أصبح للفلاحين قوة سياسية ومعنوية كبيرة، مما أثار العداء عليه من قبل الطبقة الحاكمة، وكذلك اعتنق صلاح أبو سيف في كل أفلامه مضطهدي عصره ومهمشيه، فاستعرض مشاكل المرأة في أفلام «شباب امرأة»، «أنا حرة»، «بداية ونهاية»، «الزوجة التانية»، وكذلك مشاكل الطبقة الوسطى الغالبة على المجتمع في أفلام مثل «القاهرة 30» و«بداية ونهاية» و«القضية 68» الذي عرضه ايضا لاضطهاد السلطة، بينما قدم مشاكل الفلاحين في أفلام مثل «الزوجة الثانية» و«المواطن مصري»، فيما لم تغب الثورة عن الفنان الذي انطلقت مدرسته السينمائية مع ثورة يوليو، ليقدم فيلم «البداية».
ويبقى أهم ما يميز سينما صلاح أبو سيف هو قدرته الفائقة على استخدام الرمز ليعبر عن الواقع، وهو ما جعله على وفاق تام مع الأديب الكبير نجيب محفوظ، الذي كان أحد أعظم من استخدموا الرمز في كتاباتهم، لهذا قدم هذا الثنائي الكثير من الأفلام سوياً ، وكان هو الذي فتحَ باب الاستديو لرفيق الإبداع عام 1945، وقال «أبو سيف» عن ذلك في حديث صحفي: «قلتُ له إنّ في أدبه تعبيراً قوياً بالصور، وبناءً درامياً، وإنّ هذا هو الأساس في السيناريو البناء والتعبير بالصور. وقدمت إليه بعض الكتب الأجنبية عن السيناريو»، ليقدما سويا سيناريوهات أفلام «المنتقم»، «مغامرات عنتر وعبلة»، «لك يوم يا ظالم»، «ريا وسكينة»، «الوحش»، «شباب امرأة»، «الفتوة»، «الطريق المسدود»، «أنا حرة»، «بين السماء والأرض»، وغيرها من الأفلام.
رحل صلاح أبو سيف في 22 يونيو عام 1994، وبقى حاضراً برمزه بيننا حتى الآن، ومن منا لا يرى مشهد الفنان حمدي أحمد بـ«القرنين» في فيلم «القاهرة 30» تعبيرًا صالحًا لكل العصور، ورجل الدين الموالي للسلطة والذي قدمه الفنان حسن البراودي في فيلم «الزوجة الثانية: «وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم».
رحل بعد أن قدم 40 فيلما، وعرضت أفلامه في أهم المهرجانات كان وفينيسا وبرلين، واختاره الكاتب والناقد الفرنسي المعروف «جورج سارول» ضمن أهم 100مخرج سينمائي في العالم، حيث ورد اسمه في أول القائمة بأنه المخرج الأكثر مصرية، لتميزه في المعالجة الدرامية التي تعبّر عن «اللون الشعبي» وحرصه على البيئة المصرية بوصفها نموذجًا له تاريخه وقيمته، ومدافعا عن «قضايا مجتمعه الخاسرة».