لم يكن رجل سلطان أو دنيا.. هكذا قال محبوه.. أما مَن يناقش أفكاره وخواطره فيراه يبتعد عن ألغام السياسة حماية لنفسه، لكنه عاش في أفئدة البسطاء، طالبي معرفة ما وراء معاني القرآن بأسلوب سلس تميز به الإمام الراحل.
شارك الشيخ محمد متولي الشعراوي منذ شبابه في ميدان السياسة، بفكر متحرر لا يقف عند فصيل بعينه، بل يطبق مبدأ الإسلام الليبرالي في خواطره، يجتهد، ومن شاء فليؤمن بخواطره ومن أراد الكفر بها فله الاختيار، فهو كما يصف نفسه لا يرمي أحدا بكفر أو ضلال.
«الشعراوي» الليبرالي
نشأ «الشعراوي» في أسرة متدينة تتعامل بود ومحبة مع مبادئ حزب الوفد «الدين لله والوطن للجميع»، وكان مفتونًا بشخصية سعد زغلول، ويروي الشيخ في مذكراته أنه يحرص على صحبة أبيه في زياراته المتكررة لـ«زعيم الأمة» في مسجد قرية «وصيف»، بل كان زملاؤه من الطلبة الوفديين في الأزهر، يختارونه وكيلاً للجنة الوفد بـ«الأزهر».
وكحال المصريين في «ثورة 1919» كان «الشعراوي» يخرج محمولا على أعناق زملاء الدراسة في مظاهراتهم ضد الإنجليز، ويقود المسيرة بالهتاف: «الاستقلال التام أو الموت الزؤام».
«الشعراوي» من الملكية إلى الجمهورية
عُرف عن «الشعراوي»، الذي ولد في عام 1911، حبه للشعر وكان لقلمه خواطر في ميدان السياسة فكتب عن الملك فاروق:
فإذا الطلعة السنية لاحت
وتجلى الفاروق بحبل موطَّدْ
كبر الحشد والأكُفُّ تلاقت
بين مَن ردَّد الهتاف وزغردْ
يطوي التاريخ صفحة العهد الملكي، فيجد «الشعراوي» نفسه أمام ثورة يوليو، فيكتب عنها:
أحييتَها ثورة كالنار عارمة
ومصر ما بين محبور ومرتقِبِ
شقَّت توزِّع بالقسطاس جذوتها
فالشعب للنور.. والطغيان للهب
وهكذا خِلتُها والله يغفر لي
كم لمواليد هذا الدهر من عجب!
كان «الشعراوي» في بداية الخمسينيات مدرسًا بكلية الشريعة في جامعة الملك عبد العزيز بمكة المكرمة، لكنه مع الخلاف الذي دار بين عبد الناصر وملك السعودية منعه الرئيس الراحل من العودة ثانية إلى السعودية.
فترة الستينيات في مصر كانت مرحلة فاصلة في تاريخها، وأيضًا في حياة «الشعراوي»، الذي لم يجد وقت «نكسة 1967» سوى السجود شاكرًا ربه، فربط البعض بين ذلك وما حدث لـ«الإخوان» في عهد «ناصر»، خاصة أن الشيخ نشأ في كنف «الجماعة» لسنوات، لكنه انشق عن طريقها.
يوضح «الشعراوي» سبب ما فعل، فيقول: «فرحت لأننا لم ننتصر ونحن في أحضان الشيوعية»، لكنه بعد وفاة عبد الناصر قرر أن يوقّع في دفتر رثائه، فكتب: ««أنت أستاذ في الزعامة.. ومعلم ثورة».
وقبل أيام من وفاة «الشعراوي» ذهب إلى قبر «ناصر» لقراءة الفاتحة عليه، وكأنه كما يقول عن نفسه يريد أن ينهي حياته بلا نفاق.
«الشعراوي» في حضرة «رئيس مؤمن»
رحلة «الشعراوي» السياسية تم استكمالها مع «الرئيس المؤمن»، السادات، فكانت علاقة تشبه طرفي المقص تقترب وتبتعد، فهناك من يستهجن قوله عن الرئيس الراحل: «لا يُسئل عما يفعل»، وهناك من يرد بأن كلماته «فُهمت خطأ»، لكن الذي أخفاه في نيته، آنذاك، حسابه عند الله.
سجدة «الشعراوي» في «النكسة» كانت حاضرة في «حرب أكتوبر»، وانصب سبب سعادته على بعد المصريين وقت الانتصار عن الشيوعية، وتمر 3 سنوات حتى يكلفه السادات بمنصب وزير الأوقاف، فيروي الشيخ سبب قبوله المنصب، قائلاً: «من كثرة ما سئلت كنت أرد على كل من سألنى: إذا كانت الوزارة خيرا فقد دخلنا فيه.. وإذا كانت شرًا فقد خرجنا منه، والحقيقة أن هناك شيئًا آخر رجح قبولى الوزارة»
إذا أردت أن تعرف بقية الحكاية ستجد «الشعراوي» يخبرك بأنه وجد المنصب فرصة لـ«تطبيق وتحقيق الشريعة الإسلامية»، لكنه بعد شهور شعر بـ«هم شديد»، واصطدمت رؤوس آماله بجبال «الرئيس المؤمن»، فأخذ ينطق أمام رئيس الوزارة، ممدوح سالم: «اعتقوني لوجه الله» حتى ترك الوزارة مع أول تعديل.
حاول السادات إنهاء خريف «اعتقالات سبتمبر 1981»، وامتصاص غضب الناس عليه عن طريق الاستعانة بـ«الشعراوي» في منصب «شيخ الأزهر»، لكن ابن محافظة الدقهلية، احتج بلهجة تهكمية: «وشيخ الأزهر اللي موجود هتعملوا فيه إيه؟»، فيردون عليه كما يحكي: «يعفيه الرئيس بحجة مرضه»، فيرفض الشيخ، كما روى عنه المقربون منه.
تطير رصاصات في الهواء فتخترق جسد السادات، فيتحدث «الشعراوي»، قائلاً: «من العجيب أن اغتيال السادات قد فرح به الأغبياء من خصومه، وأنا قلت لهم: فرحكم باغتياله حمق، لأن السادات كانت له حسناته، كما كانت له سيئاته أيضا قبل ذلك، فأراد الله أن يغفر سيئاته الماضية بحسناته التي فعلها الآن، فقال له: مت شهيدًا، لكي تصبح كما ولدتك أمك مطهرًا من ذنوبك»، هكذا يروي المقربون منه ما قاله عن الرئيس، الذي كان في صحبته وقت زيارة الولايات المتحدة، التي انتهت بالتوقيع على «معاهدة كامب ديفيد».
وقتها صلى «الشعراوي» أول جمعة أقيمت في «الأمم المتحدة»، وألقى فيها خطبة جامعة شاملة دعا فيها المسلمين المغتربين أن يكونوا عنوانًا مشرفًا لدينهم، وأن يكونوا صورة حية لعقيدتهم بسلوكهم.
نهاية «إمام الدعاة»
انتهت حقبة «الرئيس المؤمن» ليجد «الشعراوي» نفسه أمام مبارك، فيترك الشيخ مجال السياسة، ويكتفي بدروسه الدينية في التليفزيون، لكن القدر يجعله يقف وجهًا لوجه أمام الرئيس في منتصف التسعينيات للقرن الماضي.
يتكئ على عصاه وحوله لفيف من رجال الدين سواء من أتباع «سُنة محمد» أو «تعاليم عيسى المسيح»، وسبب التجمع نجاة الرئيس، آنذاك، من محاولة اغتيال في أديس أبابا.
يتجلى «الشعراوي» بخاطرة يخاطب بها مبارك، وهو يستند على كتفه فيبلغه وأمره في يد رب كريم: «إذا كنت قدرنا فليوفقك الله، وإذا كنا قدرك فليعنك الله على أن تتحمل».. انتهت كلمات الشيخ واختل توازنه، لكن سرعان ما استند على أقرب المحيطين به، وقبلها كان قد وجه له رسالة، قائلاً: «نحن سنعينك بأن نصلي من أجلك».
لم يكتف «الشعراوي» برسائل للرئيس فقط، بل خاطب في أحاديث له جماعة الإخوان المسلمين، قائلاً: «كنتم شجرة ما أروع ظلالها وأروع نضالها، ورضي الله عن شهيد استنبتها، وغفر الله لمن تعجل ثمرتها».
أما المعارضة فنصحها بالبعد عن «دوام الخلاف»، لأنه من «الاعتساف»، وكان للحزب الوطني وقتها نصيب في خواطر «الشعراوي»، الذي قال في رسالة تبدو نافعة لأي حزب حاكم مهما اختلفت الظروف التي يعيشها: «رجّح ولا تجرح، ولا تضبط نفسك على نعم دون استحقاق، فدوام الوفاق نفاق».
توقفت خواطر «الشعراوي» في 18 يونيو 1998، ليترك الناس تتذكر له كلماته سواء في الدين أو السياسة، فيكون حاضرًا معهم وقت «ثورة يناير» عندما أشار إلى أن الثائر الحق يهدم الفساد، ثم يهدأ ليبني الأمجاد.