بقدر ما فجرت «ثورة النباتات» الغضب الشعبي، فى شوارع تركيا انطلاقا من ميدان «تقسيم» فى إسطنبول، فإن المعارضة تخطط لسحب الثقة من حكومة «العدالة والتنمية» الإسلامية.
وأطلقت الاحتجاجات تحذيرات لرئيس الوزراء رجب طيب أردوغان، للإسراع فى احتواء الموقف، واتخاذ إجراءات عاجلة لإنهاء الاحتجاجات، إلا أن الأيام الماضية حملت دلالات واضحة على أن «سيف» النظام أقرب الخيارات بفض الاعتصام فى ميدان تقسيم، وتصعيد لغة تفريق المتظاهرين بالقوة، وإعطاء الضوء الأخضر لـ«عصا» الأمن.
ورأى البعض أن اشتعال الاحتجاجات مصدره اعتصام التيارات المختلفة، وعلى رأسها الجماعات المناصرة للبيئة رفضًا لخطط الحكومة لإزالة بعض الأشجار فى قلب إسطنبول، لإفساح المجال لإنشاء مركز تسوق ومبنى يعود للعهد العثمانى، فى حين أن الواقع يؤكد أن الاحتجاجات التى رفعت صور الزعيم مصطفى كمال أتاتورك تهدف بالأساس إلى الحفاظ على هوية الدولة العلمانية، التى سارع أردوغان منذ مجيئه للسلطة إلى تغييرها تدريجيا بدءًا من تعديل الدستور، وإزاحة العسكر عن العمل السياسى، وتقليم أظافر المؤسسة القضائية، بينما جنوح السلطة إلى اتباع لغة العنف كان سببا محوريا لانفجار الشارع، بما يخل بالصورة الوردية لديمقراطية الإسلاميين الأتراك.
وما أثار مخاوف المحتجين والمعارضة هو طموحات أردوغان، التى استفزت معارضيه فى الشهور الأخيرة عندما أطبق سيطرة حزبه على جميع المؤسسات العسكرية والقضائية والأكاديمية والإعلامية بصورة كرست مخاوف من انحراف نظامه عن المسار الديمقراطى والعلمانى ومحاولة احتكار السلطة، واستند خصوم رئيس الوزراء إلى هدف الأخير من تعديل الدستور بحيث تتحول الجمهورية إلى نظام رئاسى مع نهاية ولايته، وإجراءاته المكثفة لطمس معالم العلمانية، وفرض «أسلمة الدولة»، حيث كان آخر قراراته تمرير قانون يحظر بيع وشرب الخمور، بما يعزز من سيادة الطابع الإسلامى على مجريات الحياة فى تركيا.
ولم تشفع الإنجازات الاقتصادية لحكومة أردوجان على مدار 10 سنوات فى مواجهة غضب واحتقان تيارات المعارضة، التى قفزت على «احتجاجات تقسيم»، وسارعت باصطياد الأخطاء لحزب العدالة والتنمية الحاكم، لاسيما أن الضغوط الخارجية تصاعدت بدورها عبر الآلة الإعلامية الغربية، وصورت صحيفة «كريستيان ساينس مونيتور» مظاهرات «تقسيم» باعتبارها «ثورة تصحيح» تعبر عن انتفاضة شجاعة دون قيادة وتحركها تغريدات الإنترنت لإنقاذ الديمقراطية، فيما رأت صحيفة «لوس أنجلوس تايمز» أن تركيا «تسير فى الطريق الخطأ تحت حكم (أردوجان) والاحتجاجات الأخيرة قد تساعد فى إحياء تراثها العلمانى والديمقراطى».
ووصفت صحيفة «ديلي تليجراف» أردوجان بأن لديه ميولا ديكتاتورية، ولا يقبل النقد بسهولة، مشددة على ضرورة أن ينصت لنبض الشارع، وحذرت من أن استمرار الاضطرابات يقوض فرص الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وقد يورط أنقرة فى مخاطر اقتصادية فى مقدمتها هروب الاستثمار الأجنبى، وارتفاع العجز التجارى، وتراكم الديون الخارجية.
ومع إصرار المتظاهرين على رفع سقف مطالبهم إلى حد المطالبة بإسقاط النظام، وإجراء انتخابات مبكرة، ورفض أردوجان الانصياع للضغوط، برز عاملان مؤثران صاغا المشهد السياسى، تمثل الأول فى دور وسائل الإعلام الاجتماعية، التى ساعدت وحدها على تحويل اعتصام لمناصرة البيئة، إلى انتفاضة ومسيرات ضخمة مناهضة للحكومة، ونجحت فى الحفاظ على زخمها، أما العامل الثانى فمصدره الطبقة الوسطى الجديدة والشباب الأتراك، التى شكلت غالبية فئات المجتمع خلال العقد الماضى، ونمت بفضل سياسات أردوجان الاقتصادية الناجحة، إلا أن الأغلبية الديموجرافية تطالب باحترام الحريات الشخصية مثل الحق فى التجمع، واحترام البيئة والإرث المدنى. وتعامل أردوجان مع أحداث الشغب بثقة عالية مستمدة من شعبية اكتسبها على مدار 10 سنوات تدعمها الإنجازات الاقتصادية المتمثلة فى تجاوز الاستثمارات المباشرة 100 مليار دولار منذ 2003، ووصول قيمة الصادرات التركية إلى 152 مليار دولار خلال 2012، أى 10 أضعاف قيمتها قبل تولى أردوجان السلطة لتحتل الدولة فى عهد الإسلاميين المرتبة الـ17 فى قائمة أقوى الاقتصادات فى العالم، حسب الأرقام الرسمية الصادرة عن صندوق النقد الدولي.