تحكى الأسطورة اللبنانية عن العاشق «أدونيس» وحبيبته «عشتروت» قصصاً هى أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع، وقد حمل شاعرنا الذى نتحدث عنه اسم شهرته من تلك الأسطورة القديمة ولكن اسمه الحقيقى هو «على أحمد سعيد»، وهو سورى المولد والنشأة، بدأ تعليمه فى سنٍ متأخرة نسبياً تجاوز فيها سنوات الطفولة الأولى حتى أصبح واحداً من أكبر الشعراء العرب وإن كان يعد بكل المقاييس شاعر الصفوة،
فلغته ليست سهلة، وتركيباته تبدو معقدة لا يمكن الوصول إلى ما وراء سطوره إلا بالتدقيق والتعمق والتفكير المتصل، وأزعم أنه ليس شاعراً محبوباً من أقرانه خصوصاً بعض الشعراء المصريين وقد كانت بينه وبين الشاعر العربى الكبير «أحمد عبدالمعطى حجازى» مساجلاتٌ تعكس شيئاً من الحساسية بين «شعراء مصر» وغيرهم من الشعراء العرب، وعندما كان «معرض القاهرة الدولى للكتاب» يوجه الدعوة للشاعر «أدونيس»، فإنه كثيراً ما كانت تحيط بالزيارة - إن تمت - ملابساتٌ كثيرة، رغم أن ذلك الشاعر السورى الكبير يملك جمهوراً مصرياً يتذوق شعره ويفهم لغته،
وهناك موسم سنوى يطفو فيه اسم «أدونيس» على السطح بمناسبة الحديث عن جائزة «نوبل» فى الأدب، حيث يرى الكثيرون أن «أدونيس» جديرٌ بها ومستحقٌ لها وإن كانت قد تخطته لعدة سنوات حتى لم يعد الاسم مطروحاً بالحدة نفسها التى كان عليها من قبل، و«أدونيس» شديد الاعتزاز بذاته والانحياز لأسلوبه بحيث يبدو متفرداً مغرداً خارج السرب،
وهذا التفرد هو الذى أعطاه جزءاً كبيراً من بريقه اللامع وشهرته الواسعة، بل إننى أزعم أن الغموض الذى يكتنف لغته يوحى لقرائه أنهم أمام شىء مختلف ولغةٍ متميزة، ولقد جمعتنى مناسبة ثقافية بذلك الشاعر الكبير عندما دعا الشيخ «محمد بن راشد» حاكم «دبى» مجموعة من المفكرين والمثقفين العرب للتشاور حول مبادرته لإنشاء صندوقٍ ضخم لتمويل المشروعات التعليمية فى الدول العربية،
وقد كان لقاؤنا فى «دبى» لعدة أيامٍ اقتربت فيها من ذلك الشاعر العربى المتميز، واكتشفت أنه أكثر بساطة وتواضعاً مما كنت أظن واستمعت إليه وهو يتحدث عن محطاتٍ فى تاريخه الشخصى ويتبادل الملاحظات مع عددٍ من الشعراء والأدباء الحاضرين، وقد كنت قبل ذلك أسير انطباعٍ بأن «أدونيس» هواه غير مصرى ولكنى اكتشفت خطأ تصورى واستمعت إلى حديثه عن «مصر» وشعرائها الكبار بمودة ومحبة زائدين،
كما تحدث عن ذكرياته أثناء زياراتها وفهمه لشعبها، وتلك خصوصية يتميز بها السوريون عموماً، فهم من أقرب الشعوب العربية إلى المزاج المصرى، وسوف يظل «أدونيس» الشاعر أقرب إلى الأسطورة الحية منه إلى الشخصية الواقعية، وذلك يعكس حجم الاحتفاء به فى المحافل الثقافية والمنتديات العربية والأجنبية،
لذلك كان طبيعياً أن يرشحه الكثيرون عربٌ وأجانب لجائزة «نوبل»، وإن كنت أظن أن مواقفه السياسية لا تقترب كثيراً من «القاهرة» الرسمية فى السنوات الأخيرة إلا أنه يظل قيمة قومية تأخذ طريقها نحو العالمية، وخلال أحاديثى معه اكتشفت أنه متابعٌ جيد للأحداث ومفكر نشط قبل أن يكون شاعراً معروفاً،
وهو يعتقد أن بعض الشعراء المصريين قد أساءوا فهمه وتشويه صورته أمام جمهوره المصرى، وهو يرد على ذلك بمرافعاتٍ قوية ومساجلاتٍ واعية، وفى ظنى أننا فى «مصر» يجب أن نفتح الأبواب واسعة لرواد الفكر والشعر والأدب، فقد ازدهر دور «مصر» دائماً بالتواصل مع غيرها والترحيب بضيوفها، فالعزلة والانغلاق ليسا صفتين مصريتين على الإطلاق، وعندما تكسب «مصر» أديباً أو شاعراً فإنها تكسب معه تلقائياً جمهوره العاشق فى أنحاء الوطن العربى.
.. تحية لذلك الشاعر السورى الكبير وجمهوره العريض، مَن تذوق منهم شعره عن فهم ومن مضى وراءه فى تظاهر، لأن فكر الرجل أعمق وأرحب من أن نتناوله دون تذوق خاص وتأمل حقيقى ورؤية صادقة.