«راغب عياد».. فنان تشكيلى صاحب اتجاه وبصمة تخصه؛ فاضت أعماله بالروح والهوية المصرية لتجسد ملامح حياة المصريين البسطاء المسحوقين وتوثق تشكيليًا لطقوسهم المختلفة، مثل أفراح الفلاحين وحياتهم اليومية؛ بل امتدت للتعبير عن روحهم وروحانياتهم. رسم «عياد»- الذى تمر اليوم ذكرى وفاته الـ38- حيوانات الحقل فى العديد من لوحاته التى توجد نماذج منها بمتحف الفن المصرى الحديث، مثل: «رقص الخيل، والعمل فى الحقل، وسوق الدواب»، كما اتجه إلى تجسيد الحياة فى أديرة الصحراء؛ فصور عمارتها وحياة الرهبان بها فى مجموعة من أهم رسومه، وكانت أشهر لوحاته «الخروج من مصر، ومقهى فى أسوان، ورقص الخيل» فى 1953، وكانت له كذلك جداريات داخل فندق سميراميس الذى تم تدميره فى حريق القاهرة 1952.
تخصص «عياد» لفترة طويلة فى رسم الأيقونات الدينية واللوحات الجدارية بالكنائس القبطية، وهى مشحونة بالروحانية والتصوف، لتُزين أعماله كنيسة «كلية الفرير» بمنطقة الظاهر، وكاتدرائية الأقباط فى سوهاج، وكنائس الأقباط الكاثوليك فى جرجا والمنيا وسمالوط وكنيسة العذراء فى الزمالك وبطريركية الأقباط فى الإسكندرية، واتخذ مرسمه فى حى القلعة، وهو ما سمى بعد ذلك بـ«بيت الفنانين» فى درب اللبانة، وهو نفس البيت الذى أقام وتوفى فيه المهندس حسن فتحى، شيخ المعماريين الدوليين.
ويعد «عياد» من أكثر الفنانين الرواد جرأة وتحررًا فى فنونه، وصاغ منهجًا يجمع بين التعبيرية التى تقترب أحيانًا من مذاق الكاريكاتير.. وبدافع من الرغبة فى تحقيق الأصالة؛ اختار الأفراح الشعبية الريفية وحياة الفلاحين ومباهجهم التقليدية موضوعًا للوحاته، بالإضافة إلى حياة الرهبان فى الأديرة، وتسجيله الموضوعات الدينية القبطية بأسلوبه التعبيرى الريفى. مرسم «عياد» كان ملتقى لمعظم مفكرى العصر وفنانيه؛ يحج إليه الأجانب لرؤية الإبداع المصرى، وآنذاك تعرّف على عددٍ منهم فى «حى الخرنفش»؛ حيث اجتمع عدد من الفنانين الأجانب المقيمين فى مصر على أن يجعلوا من «الخرنفش» حيًا للفنانين، أسوة بـ«حى مونبارناس» فى باريس.
ساهم «عياد» فى تأسيس جماعة «أتيلييه القاهرة» وشارك فى كثير من المؤتمرات ولجان وزارة الثقافة والمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، وكان هو صاحب الدعوة إلى إنشاء الأكاديمية المصرية للفنون الجميلة فى روما، وأيضًا صاحب فكرة تفرغ الفنانين للإنتاج الفنى منذ 1928، كما ساهم فى إقامة متحف محمود مختار بمساعدة هدى هانم شعراوى، وفى إقامة المتحف القبطى تحت رعاية سميكة باشا، ليدرج اسم هذا الفنان الكبير فى الموسوعات المحلية والعالمية، منها «موسوعة 80 سنة من الفن» وكتاب «فلسفة الفن» للدكتور زكريا إبراهيم، وكتاب «فجر التصوير المصرى الحديث» للناقد عز الدين نجيب، فضلًا عن العديد من الكتب والمراجع التشكيلية، ومن أوجه التقدير التى حظى بها حصوله على جائزة الدولة التقديرية للفنون مع وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى فى 1964، بالإضافة إلى وسام بـ«درجة فارس» من الحكومة الإيطالية، تقديرًا لفنه فى 1936، وله مقتنيات خاصة بمتحف الفن المصرى الحديث، والمتحف الزراعى، ومتحف الفنون الجميلة فى الإسكندرية.
ووفق توصيف عز الدين نجيب، الفنان التشكيلى والناقد والأديب، فإن «عياد» كان معنيًا بـ«الموضوع الشعبى والروح الشعبية» سعيًا إلى بلورة فن مصرى صميم، ما يفسّر لنا طبيعته النافرة من التعليم الأكاديمى ونظرياته، ورفضه الاستفادة من التعاليم الأوروبية؛ باعتبارها مفسدة للفن المصرى الأصيل، وهو الأمر الذى دفعه لتكثيف وتوظيف طاقاته الإبداعية لبلوغ طموحه القومى، والتأكيد على الخصوصية والهوية المصرية، وهذا ما حققه بالفعل، غير أن عالمه الفنى يتألف من عالمين «ظاهرى» يعبر عن الفئات الشعبية الدنيا فى حياتها اليومية من حيث كفاحها وأفراحها واحتفالاتها وهمومها مع الفلاحين وفى الأسواق والمحاريث والأبقار والماعز والجاموس فى قوافل العربات الكارو والدواب الأليفة، وأخيرًا فى رحاب الأديرة ووسط الرهبان والكنائس، أمّا الثانى فهو «الباطن» حيث المضمون التعبيرى الذى صاغه برؤية جمالية فريدة تتجاوز الوصفية ومحاكاة الواقع إلى عالم جديد يوازى الواقع ويضيف إليه، فلم يترك موضوعًا يعيشه الشعب؛ سواء كان متعلقًا بالحياة العامة أو الخاصة أو الموضوعات الوطنية أو الإنسانية أو الفلكلورية أو الدينية أو الميتافيزيقية، دون أن يغمس فرشاته المصرية الأصلية فى أعماقه، فهو فارس التصوير المصرى، ليتفق الجميع على أن انطلاق الروح المصرية فى التصوير الحديث خرجت من معطفه الفنى، لتحقق مكانة وحضورا مميزا لمصر فى الخارج.
تمسّك «عياد» بالروح والأصالة المصرية، ساقته فى أثناء سفره ضمن البعثة التبادلية التاريخية مع زميله وصديقه يوسف كامل إلى إعداد تقرير مطول للسفير المصرى فى روما، حول إمكانية حصول مصر على قصر للمركز الثقافى المصرى فى إيطاليا، مثل الدول الأخرى، إذ جاء نص هذا التقرير مثالًا للوطنية والغيرة على مصر التى كانت فى كل قلبه وكيانه، كما وجّه رسالة إلى أحمد ذو الفقار باشا، وزير مصر المفوض فى روما، آنذاك، تجلت منها غيرته الوطنية واهتمامه بإعلان شأن الفنون فى بلده.. وجاء فى هذه المقدمة: «إن مصر كنانة الله، حازت فى عهد الرفعة والمجد عهد الفراعنة قصب السبق فى مضمار الفنون الجميلة التى كان لها شأن عظيم وعناية لا مثيل لها فى الفنون، وتلك الآثار الخالدة المنتشرة فى أنحاء العالم هى الدليل القاطع الذى يؤيد مجد أجدادنا الفراعنة، ويعترينى الأسف الشديد عندما أقارن حالة مصر من الوجهة الفنية فى تلك العصور الغابرة التى كانت فيها منارة الشرق ومنبع الفنون وبما أصبحت عليه الآن من إغفال الفنون الجميلة حتى كادت تتلاشى؛ لولا أن أتاح الله لها ذوى الغيرة والهمم العالية الذين أخذوا بناصرها وأنقذوها من هاوية الزوال، وهو الأمير يوسف كمال، وقد أخذ محمد على باشا رأس الأسرة المحمدية العلوية على عاتقه بناحية العلم، فشيد صروحه فى بلاد القطر وأسس المدارس، إلّا أننى أقول فى نفس المذكرة إن الفنون الجميلة هى الأداة الموصلة لهذا الغرض بتهذيب النفوس وترقية الشعور، وتأثيرها سريع كسرعة التيار الكهربائى».
وانطلاقًا من هذا الموقف الوطنى، نقف على أهمية هذه المبادرة التى تبناها ودعا إليها فى العشرينيات للاعتراف بالفنون الجميلة وروادها، عندما اتبع مع زميله يوسف كامل فكرة البعثة التبادلية؛ ليسافر الأخير للدراسة فى روما «سنة دراسية»، بينما تولى «عياد» القيام بعمله وإرسال مرتبه إليه، ثم تبادلا المواقع فى السنة التالية، ولقد كان أثر هذه المبادرة عميقًا من الناحيتين «السياسية والثقافية» ليطرح بوضوح ضرورة إنشاء الأكاديمية المصرية فى روما، حتى تتيح الفرصة أمام أبناء الوطن، كى تستعيد مصر شهرتها الفنية التى كانت موضع إعجاب العالم بأسره، وكان هذا التقرير الذى دفع به «عياد» للمسؤولين قد صادف قبولًا من ولاة الأمور بوزارة المعارف التى رفعت بدورها مذكرة بطلب إنشاء الأكاديمية المصرية، أسوة ببقية الدول مثل فرنسا وانجلترا وأمريكا وألمانيا وبلجيكا وإسبانيا ورومانيا، حتى اعتمد البرلمان المصرى فى 1924، 12 ألف جنيه سنويًا للإنفاق على بعثات الفنون الجميلة، وحصلت مصر على فيلا «كولى أبيو» وتم وضع بروتوكول الأكاديمية المصرية فى روما عام 1927، ثم أقيم مبنى خاص فيما بعد فى منطقة «فيلا بورجيزى» الشهيرة وسط «حدائق بورجيزى»، وفى 1925، سافر «عياد» ضمن البعثة الثانية على نفقة الدولة مع صديقه يوسف كامل لمدة 5 سنوات حصل خلالها على 3 دبلومات فى (التصوير الزيتى والزخرفة والديكور المسرحى).
من مواقف «عياد» التى تعكس بجلاء حسه الوطنى الكبير، أنه بعد عودته من البعثة فوجئ بتعيينه فى التعليم الصناعى كأستاذ للفنون التطبيقية، واستمر بها 7 سنوات؛ أسس خلالها قسم الزخرفة، حيث جاء هذا التعيين المجحف بسبب الإدارة الأجنبية التى عملت على تشتيت العائدين عن الأوساط الفنية، لكنه نجح فى إثارة ضجة كبيرة بالبرلمان عام 1937؛ احتجاجا على الإدارات الأجنبية للتعليم الفنى التى تضارب الوطنيين، وحصل على موافقة المجلس على عدم تجديد عقود الأجانب مع إحلال المصريين العائدين من البعثات محلهم، ليتم نقله إلى مدرسة الفنون الجميلة العليا فى 1950، ثم تولى منصب مدير متحف الفن الحديث، وخلال هذه الفترة ساهم فى عملين عظيمين؛ أولهما إقامة متحف مختار، وإقامة المتحف القبطى تحت رعاية سميكة باشا، فى حين يذكر المؤلفون ضمن «موسوعة 80 سنة فى الفن» أنه فى عام 1935 تولى زخرفة فندق شبرد بلوحات فرعونية وذوق رفيع، لكن هذا الفندق تفحّم فى حريق القاهرة 1952 ثم هُدم بعد ذلك، وفى 1937 تولى تجميل «فيلا ثابت» بمنطقة جاردن سيتى والعديد من القصور والاستراحات الملكية، وكان يمزج بين المناظر الإيطالية والآثار بأسلوب شاعرى، إلى جانب تجميل «الفرير» بحى الظاهر بلوحات من الحديد المطروق.
ولد الفنان الكبير راغب عياد فى 10 مارس 1892، وتلقى تعليمه الابتدائى بمدارس الفرير بشبرا، ثم تلقى دراسته الثانوية بمدارس الفرير بحى الخرنفش، والتحق بمدرسة الفنون الجميلة عام 1908 ليتخرج فيها عام 1911، ثم حصل على 3 دبلومات فى فن التصوير الزيتى والزخرفة وفن الديكور المسرحى من إيطاليا، كما تولى تدريس مادة الرسم فى مدرسة الأقباط الكبرى 1911، وفى 1930 عين رئيسًا لقسم الزخرفة فى مدرسة الفنون التطبيقية ثم أستاذًا بمدرسة الفنون الجميلة العليا 1937، ثم تولى رئاسة قسم الدراسات الحرة بها من 1942 حتى 1950، وخلال الفترة من 1950 لـ 1955 عيّن مديرًا لمتحف الفن الحديث بالقاهرة وتم انتدابه ممثلًا للمتاحف المصرية بالمجلس الدولى للمتاحف فى باريس 1953، وأقام ما يقرب من 40 معرضًا خاصًا، فضلًا عن مشاركته فى معظم معارض صالون القاهرة الذى تنظمه جمعية محبى الفنون الجميلة منذ 1924 على امتداد نصف قرن، وعرض فيها أهم أعماله، إلى جانب مشاركته فى العديد من المعارض العامة داخل مصر وخارجها.