الاتفاقية الدولية بين بريطانيا العظمى وإثيوبيا عام 1902 الخاصة بترسيم الحدود الإثيوبية يتعهد فيها الإمبراطور الإثيوبى مينيليك الثانى بألا يسمح بإنشاء أى عمل على النيل الأزرق أو بحيرة تانا أو نهر السوباط من شأنه التأثير سلباً على تدفق النهر إلا بالاتفاق مع حكومة السودان المصرى البريطانى، واتفاقية الأمم المتحدة عام 1997 للاستخدامات غير الملاحية للمجارى المائية الدولية خصصت باباً كاملاً للإخطار المسبق عن المشاريع المائية على الأنهار الدولية المشتركة يتكون من 9 مواد تفصيلية.. وتنص هذه المواد على أنه لا يجوز البدء فى تنفيذ مشروع على نهر دولى قبل إخطار الدول المحتمل تضررها بجميع بيانات المشروع الفنية ونتائج دراسة الآثار البيئية حتى يتسنى لهذه الدول تقييم الآثار المحتملة لهذا المشروع، وتنص اتفاقية الأمم المتحدة على منح فترة 6 شهور للدول المحتمل تضررها للدراسة وتقييم آثار المشروع، ويحق لهذه الدول أيضاً فى حالة صعوبة التقييم مد هذه الفترة مدة 6 شهور أخرى للدراسة والتحليل، وتنص اتفاقية الأمم المتحدة على أنه إذا أوضحت دراسات التقييم أن المشروع سيؤدى إلى آثار سلبية بالغة فإنه على الدول المتضررة والدولة صاحبة المشروع التشاور، وعند الضرورة التفاوض للوصول إلى حل منصف لهذه المشكلة، وأثناء هذه المشاورات والمفاوضات وبناءً على طلب الدول المتضررة تقوم الدولة صاحبة المشروع بتأجيل تنفيذ المشروع لفترة 6 شهور أو حسب ما يتفق عليه بين الدول بعضها البعض. وفى حالة عدم الاتفاق بين الدول حول المشروع يمكن اللجوء إلى التحكيم الدولى أو غيره من الوسائل السلمية لحل مثل هذا النزاع، هذه هى التعهدات الإثيوبية فى اتفاقية 1902 بعدم البدء فى أى مشروع من شأنه التأثير سلباً على تدفق النهر قبل الرجوع إلى دولتى المصب، وهذه هى الإجراءات التى تنص عليها اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1997 قبل الشروع فى تنفيذ مشروعات مؤثرة على الأنهار الدولية المشتركة.
وكلنا على علم بما حدث ويحدث حالياً من قبل إثيوبيا فى البدء والاستمرار فى إنشاء سد النهضة دون إخطار مصر والسودان، ودون تقديم أى بيانات أو دراسات عن السد حتى تاريخه، ونعلم أيضاً أنه بعد احتجاج كل من مصر والسودان على السد تم تشكيل لجنة ثلاثية من الدول الثلاث لدراسة آثار المشروع، ولكن هذه الدراسة لم تبدأ بعد بينما جار الاستمرار فى إنشاء السد الذى يرتفع بناؤه يوماً بعد يوم، وبالرغم من كل هذه المخالفات لأسس وأعراف القانون الدولى والاتفاقيات القديمة القائمة مازلنا نسمع من المسؤولين عن آفاق التعاون الإيجابية والتفاؤل بحل هذا الخلاف، إن السدود الإثيوبية التخزينية ستكون لها آثارها السلبية البالغة على تدفق النهر حيث إن العنصرين الرئيسيين للتأثيرات السلبية للسدود يتمثلان فى مقدار سعتها التخزينية وفى مقدار استهلاك مخزونها المائى فى الزراعات المروية. فكلما زادت السعة التخزينية للسدود وزادت المساحة الزراعية المروية زادت الآثار السلبية لهذه السدود على التدفق الطبيعى للنهر. السعة التخزينية للسدود الإثيوبية ستكون خصماً من مخزون المياه أمام السد العالى الذى يتم استخدامه لسد العجز المائى لإيراد النهر فى السنوات التى يقل فيها الإيراد عن قيمته المتوسطة «سنوات الفيضان المنخفضة»، وبالتالى ستظهر بعد إنشاء سد النهضة ظاهرة الجفاف والعجز المائى فى سنوات الفيضان المنخفضة وهو أشبه بما كان الوضع عليه قبل بناء السد العالى، أما المياه التى سوف تستخدم من مخزون هذه السدود للرى فستمثل خصماً مباشراً من حصتى مصر والسودان المائيتين السنويتين.
ولإعطاء خلفية أكبر للقارئ عن بداية الدراسات الحديثة للسدود الإثيوبية دعنا نعد إلى الوراء عدة سنوات إلى فبراير 2005 حيث نجحت إثيوبيا فى إقحام برنامجها القومى للسدود فى مبادرة حوض النيل من خلال الاتفاق بين وزراء المياه فى إثيوبيا والسودان ومصر فى ذلك الوقت على دراسة السدود الإثيوبية لتحديد أنسب المشروعات التى يمكن تنفيذها من خلال برنامج النيل الشرقى للمبادرة، والذى يضم كلا من إثيوبيا ومصر والسودان، وتمت دراسة أولية لهذه السدود وهى سد كارادوبى وسد بيكو أبو وسد مندايا وسد بوردر «الحدود» من خلال فريق من استشاريين دوليين وبتمويل من البنك الدولى، ثم تطورت هذه الدراسة إلى دراسة تعريفية وجدوى لهذه السدود بدأت فى يناير 2010 لمدة 18 شهراً بواسطة مجموعة استشارية كندية وبتمويل من مبادرة حوض النيل، وقامت المجموعة الاستشارية الكندية بإعداد التقرير المبدئى لمخطط مواقع وسعات السدود الإثيوبية على النيل الأزرق وتلته بعد ذلك دراسات ما قبل الجدوى لعدد من هذه السدود. وكنت قد قمت بتكليف فريق عمل من مهندسى الوزارة وأساتذة جامعة القاهرة فى النصف الأول من عام 2010 لتقييم هذه الدراسات ولدراسة السدود الإثيوبية وآثارها على مصر. وجدير بالذكر أنه فى ذلك الوقت لم يكن هناك أى ذكر عن سد النهضة الضخم الذى كان مسماه فى ذلك الوقت «سد الحدود» وبسعة لا تزيد على 20٪ من سعة سد النهضة.
ومن النتائج الممكن استخلاصها من الدراسة المصرية أن هذه السدود سوف تتسبب فى حدوث عجز مائى فى إيراد النهر بمتوسط سنوى مقداره 9 مليارات متر مكعب سنوياً وسوف تقل الكهرباء المولدة من السد العالى وخزان أسوان بحوالى 25٪. وشملت الدراسة المصرية أيضاً إمكانية إنشاء سد واحد فقط من السدود الإثيوبية الأربعة وآثار ذلك على حصة مصر المائية، فقد تمت دراسة وتحليل إمكانية وآثار بناء سد بيكو أبو فقط الذى يبلغ ارتفاعه 285 متراً وسعته حوالى 40 مليار متر مكعب ويولد طاقة كهربية فى حدود 2100 ميجاوات، وقد وجدت الدراسة أنه فى حالة الاعتماد على هذا السد فى التوسع فى الزراعات المروية بنفس المساحة المقدرة على السدود الأربعة معاً والتى تبلغ حوالى نصف مليون هكتار فإن السد سوف يتسبب فى حدوث عجز مائى فى إيراد النهر بمتوسط سنوى مقداره 8 مليارات متر مكعب سنوياً، وسوف تقل الكهرباء المولدة من السد العالى وخزان أسوان بحوالى 20٪، وهذا السيناريو الأخير مفيد فى تقدير مدى تأثير سد النهضة على مصر إذا تم إنشاؤه وحده خلال الفترة المقبلة، مع الأخذ فى الاعتبار أن الأبعاد المعلنة لسد النهضة بسعة حوالى 73 مليار متر مكعب تفوق كثيراً سعة سد بيكو أبو.
ونتائج دراسة فريق العمل المصرى متقاربة مع نتائج دراسة الدكتور مارك جيولاند من جامعة ديوك الأمريكية التى تم نشرها فى شهر نوفمبر 2010 فى دورية «بحوث الموارد المائية» التى يصدرها الاتحاد الجيوفيزيقى الأمريكى وهى أكثر الدوريات العالمية شهرة فى مجال الموارد المائية، وكانت الدراسة عن أثر إنشاء سد إثيوبى واحد وهو سد مندايا الذى تبلغ سعته 50 مليار متر مكعب، بالإضافة إلى آثار التغيرات المناخية على تصرفات النيل الأزرق، وقد انتهت الدراسة إلى أن تأثير السد يتمثل فى انخفاض إنتاج الكهرباء من السد العالى وخزان أسوان بمقدار 20٪ تزداد إلى الضعف مع التغيرات المناخية، وأنه سيتسبب فى عجز مائى فى إيراد النهر بمتوسط سنوى مقداره 9 مليارات متر مكعب فى المتوسط، ويزداد هذا العجز المائى إلى 16 مليار متر مكعب سنوياً مع التغيرات المناخية.
ومن الآثار السلبية للسدود الإثيوبية احتمال انهيارها أو انهيار واحد منها وما لذلك من آثار تدميرية على دولتى المصب، وقد قام فريق العمل المصرى من الوزارة والجامعة بدراسة تأثير انهيار سد بوردر «الحدود»، أصغر السدود الإثيوبية بسعة 14.5 مليار متر مكعب وبارتفاع يبلغ 90 متراً، ووجد فريق العمل أن انهيار سد الحدود سيؤدى إلى تدمير سدى الروصيرص وسنار على النيل الأزرق فى السودان وعرق الخرطوم فى موجة فيضان يصل ارتفاعها إلى 9 أمتار أى بارتفاع مبنى مكون من 3 أدوار، ويمتد أثر هذه الموجة التدميرية إلى الشمال فى اتجاه مصر، وبطبيعة الحال سوف تتضاعف هذه الآثار التدميرية فى حالة انهيار أحد السدود الأكبر حجماً مثل سد مندايا أو سد بيكو أبو أو النهضة وسوف تكون مؤثرة تماماً على مصر وليس الخرطوم وحدها.
وعلى ضوء نتائج الدراسة المصرية رفضت مصر فى نهاية 2010 الدراسات الكندية للسدود الإثيوبية التى تمت تحت إشراف مكتب النيل الشرقى لمبادرة حوض النيل لعدم أخذ المكتب الاستشارى الكندى فى الاعتبار الآثار السلبية البالغة على دولتى المصب، وكان قد تم إرسال ملاحظات مصر على الآثار السلبية لهذه السدود إلى سكرتارية مبادرة حوض النيل، وإلى المكتب الفنى لحوض النيل الشرقى، وإلى البنك الدولى والسوق الأوروبية، وإلى الاستشارى الكندى لمبادرة حوض النيل، ثم فاجأتنا إثيوبيا بعد الثورة المصرية بوضع حجر أساس سد النهضة الذى تم التخطيط له وتصميمه فى سرية تامة وبأبعاد عملاقة وبتكلفة تقترب من 5 مليارات دولار «ثلاثين مليار جنيه مصرى»، وبالرغم من توفر الدراسات المصرية والأمريكية عن السدود الإثيوبية فمازالت هناك تصريحات سياسية مصرية تقول إنه لا توجد لدينا أى بيانات حتى الآن عن سد النهضة وإنه دون الحصول على هذه البيانات وإجراء دراسات تفصيلية لا نستطيع أن نقول إذا كان السد سيلحق الضرر بمصر أم لا، وفى الوقت نفسه إثيوبيا مستمرة فى بناء السد. إننى أتساءل: هل الدراسات المصرية لآثار سد بيكو أبو الذى لا تزيد سعته على 60٪ من سد النهضة غير كافية لأن نعلم أن لسد النهضة أضراراً بالغة لمصر؟ وهل نتائج الدراسة الأمريكية لآثار سد مندايا الذى لا تزيد سعته على 70٪ من سد النهضة غير كافية لأن يكون لنا موقف واضح ولو مبدئى من سد النهضة؟ من العجيب أن إثيوبيا تجزم بأن السد ليست له أضرار على مصر ونحن ومع وفرة هذه البيانات والدراسات لا نقوم حتى بالتشكيك الرسمى فى التصريحات الإثيوبية!!
وكما نعلم جميعاً أنه قد تم تشكيل لجنة ثلاثية من مصر والسودان وإثيوبيا على المستوى الوزارى لدراسة آثار السد على دولتى المصب مع استمرار إثيوبيا فى بناء السد. والسؤال المهم فى هذا المقام: ماذا تعنى وبماذا تهم دراسة اللجنة الثلاثية لآثار المشروع على دولتى المصب فى ظل عدم اعتراف إثيوبيا بحصتى مصر والسودان المائيتين؟ إن عدم اعتراف إثيوبيا بالحصص ولا الاستخدامات المائية لدولتى المصب يعنى أنه لا توجد مرجعية إثيوبية لقاعدة عدم الإضرار، فإذا انتهت الدراسات مثلاً إلى أن سد النهضة سيؤدى إلى نقص تدفق النهر بمقدار 9 مليارات متر مكعب سنوياً فهذا قد لا يعنى من وجهة النظر الإثيوبية إضراراً بمصر والسودان لأنها لا تعترف بحصتهما المائية بل قد تنظر إليها كحصة مائية عادلة لإثيوبيا من تدفق النهر.
والسؤال الآخر المهم فى هذا المقام أنه فى حالة اكتمال بناء السد وأصبح العجز فى إيراد النهر حقيقة واقعة فمن يتحمل هذا العجز المائى السنوى الذى يزيد على 10٪ من إيراد النهر؟ هل مصر وحدها أم السودان أم كلا البلدين؟ الإجابة عن هذا التساؤل متوفرة فى اتفاقية 1959 بين مصر والسودان التى تنص فى بابها الخامس المادة الثانية: «نظرا إلى أن البلاد التى تقع على النيل غير الجمهوريتين المتعاقدتين تطالب بنصيب فى مياه النيل، فقد اتفقت الجمهوريتان على أن تبحثا سوياً مطالب هذه البلاد وتتفقا على رأى موحد بشأنها، وإذا أسفر البحث عن إمكان قبول أى كمية من إيراد النهر تخصص لبلد منها أو لآخر فإن هذا القدر محسوباً عند أسوان يخصم مناصفة بينهما».
فإذا كان العجز المائى نتيجة سد النهضة الإثيوبى يبلغ 9 مليارات متر مكعب سنوياً، فإنه حسب اتفاقية 1959 وفى حالة موافقة مصر والسودان على هذا السد فإن كل دولة سيتم تخفيض حصتها بمقدار 4.5 مليار متر مكعب لتصبح 51 مليار متر مكعب لمصر و14 مليار متر مكعب للسودان. هل تستطيع السودان التعايش مع هذا العجز وهى الآن ومنذ سنوات تطرح ملايين من الأفدنة للاستثمار الدولى فى الزراعات المروية ومستمرة فى بناء السدود للزراعة وتوليد الطاقة؟ وهو تستطيع مصر التعايش مع هذا العجز الذى يبلغ نصيب الفرد فيه من المياه أقل من 700 متر مكعب فى السنة، والفجوة الغذائية تزيد على 6 مليارات دولار سنوياً ومشاكل التلوث تعوق التنمية بها؟ هل تستطيع مصر التضحية بحوالى 20٪ من إنتاج كهرباء السد العالى وخزان أسوان؟ هل مصر التى تعيش على أمل زيادة حصتها المائية من مشاريع استقطاب الفاقد المائية فى النهر للإيفاء بالاحتياجات المائية المستقبلية تستطيع أن تتعايش مع هذا الشح المائى ونقص ما يقرب من 10٪ من حصتها المائية؟ هذا باختصار لب قضية السدود الإثيوبية فكيف نتعامل معها وماذا أعددنا لها كدولة مصرية وكل يوم يمر يزداد معه ارتفاع سد النهضة ليصبح حقيقة واقعة!! وللحديث بقية!!