رغم أننى تمنيت منذ اللحظة الأولى لبدء الاشتباكات بين الشرطة العسكرية والمتظاهرين فى العباسية أن ينسحب شبابنا من المنطقة فوراً، إلا أننى لم أستسغ مطلقاً الفكرة القائلة بأن ماجرى عند وزارة الدفاع كان سببه «أنه كان عند وزارة الدفاع»! فالشهداء الذين سقطوا فى محمد محمود وماسبيرو وأمام مجلس الوزراء لم يكونوا عند وزارة الدفاع! وما حدث عند وزارة الدفاع كان يشبه كثيراً السيناريو نفسه الذى جرى فى كل واحدة من تلك الأحداث. فالبداية اعتصام سلمى، يظهر بعد بدايته أفواج من البلطجية، لا نعرف اللهو الخفى الذى يدفع لهم، فيقتلون ويدمرون فى غياب شامل لأجهزة الأمن، ثم يتحول المشهد إلى اشتباكات بين الشرطة العسكرية والمتظاهرين يسقط فيها الشهداء والجرحى. بالمناسبة.. أين الداخلية؟!
والحقيقة أننى كنت ومازلت ضد اعتصام أولاد أبو إسماعيل أصلاً وضد اختيارهم لوزارة الدفاع للاعتصام فى محيطها. وحازم صلاح أبو إسماعيل مسؤول مسؤولية مباشرة عن الدماء الطاهرة التى سالت فى العباسية ولا يجوز له أن يعفى نفسه من تلك المسؤولية بالبقاء فى منزله، حتى لو كان مريضا. فحين تحترق مصر، فلا أقل من أن يطلب سيارة إسعاف- إذا كان غير قادر على الحركة- تقله للعباسية ليخاطب مناصريه مباشرة.
خطاباً مسؤولاً. فهو استغل محبتهم لإقناعهم بأن هناك مؤامرة عالمية ضده. واستمرت التعبئة ضد هذه المؤامرة التى لا دليل على وجودها أصلا، دون أدنى إحساس بالمسؤولية ليس تجاه الوطن ولا حتى تجاه أولئك المحبين.
لكن ما إن تطور الموقف وظهر اللهو الخفى فى العباسية وأطلق بلطجيته على المعتصمين حتى تغير المشهد. عندئذ لم تعد القضية هى الموقف من اعتصام أولاد أبوإسماعيل ولا الوجود عند وزارة الدفاع وانما صارت قضية شهداء وجرحى بالجملة، حيث تضامن خصوم أبوإسماعيل مع أنصاره دفاعاً عن حق كل مصرى فى التظاهر السلمى. وبالمناسبة فإن وزارات الدفاع فى العالم كله تشهد مظاهرات سلمية صاخبة أمامها دون أن يعتبر أحد ذلك مساسا بالجيش أو بهيبة الدولة.
والحقيقة أن الحديث عن حماية المنشآت فى مصر صار أقرب للعبث. فأنا لا أفهم فى الواقع كيف يتمكن بلطجية اللهو الخفى من الاقتراب بهذه الصورة من وزارة الدفاع ومعهم أسلحة شتى دون أن تتدخل أى قوات من أى نوع على مدى أيام للقبض عليهم؟ وأنا هنا لا أتحدث، لا سمح الله، عن حماية المتظاهرين، وإنما أتحدث فقط عن حماية المنشآت العسكرية. فمن هو الأكثر خطورة على تلك المنشآت، البلطجية المسلحون أم المعتصمون العزل؟ ولا أخفى على القارئ الكريم أننى فشلت فى أن أمنع ذهنى من الربط بين حكاية «حماية المنشآت» تلك، وبين مسلسل الحرائق الجارى هذه الأيام. فإذا كانت حماية المنشآت كما قيل لنا ذات علاقة وثيقة بهيبة الدولة، فأين موقع تلك الهيبة من الإعراب ياترى إذا كان مسلسل الحرائق فى طول البلاد وعرضها يؤكد غياب الدولة «صاحبة الهيبة» أصلا، بينما الماس الكهربائى «الشرير» يأتى على أموال الشعب بل ويطال منشآت للدولة كان آخرها قسم شرطة سفاجا؟! وبالمناسبة برضه، أين الداخلية؟!
وما جرى فى العباسية كانت له أسباب ثلاثة فى تقديرى. أولها تقع مسؤوليته بالكامل على حازم أبوإسماعيل شخصياً الذى لم يشأ أن يخاطب جمهوره خطاباً مسئولاً فى أى مرحلة. أما السبب الثانى فهو أن المجلس العسكرى، مثلما كان الحال فى ماسبيرو ومحمد محمود ومجلس الوزراء، تعامل مع الأزمة بمنطق أمنى وعسكرى لا بمنطق سياسى. فأنت إذا تابعت ما صدر عن المجلس العسكرى طوال الأزمة، ستجد أن خطابه كله يتعلق بالدفاع عن النفس لا بالبحث عن مخرج للأزمة. فالخطاب منذ التصريح الأول تركز من ناحية على تبرئة الجيش من دماء الشهداء والجرحى، لا على البحث عن المجرمين، وتركز من ناحية أخرى على حماية المنشآت لا على حل الأزمة السياسية المتفاقمة. والحديث على طريقة «ماليش دعوة باللى حصل» تليق بمواطن فرد لا بصاحب السلطة العليا فى البلاد. وحماية المنشآت اختزال لأمر خطير فى جانبه الأمنى وحده، بينما حل الأزمة سياسى فى المقام الأول.
والحلول الأمنية للأزمات السياسية، كما علمتنا كوارث سنوات مبارك، مثل المسكنات التى يتناولها المريض دون علاج الجرح نفسه. ومع مرور الوقت، يتقيح الجرح ويصبح العلاج أكثر صعوبة.
وهذا هو بالضبط السبب الثالث للأزمة. فاللافت أن المجلس العسكرى يبدو فى كل مرة وكأن الانتقادات الموجهة لأدائه قد فاجأته. وكأن تلك الانتقادات نشأت فى فراغ وليست وليدة تراكمات متتالية عبر أكثر من عام، أدت لخلق دوامة مؤرقة من انعدام الثقة. فبالنسبة للقوى السياسية، تمر الشهور بعد كل واقعة ولا نعرف شيئاً عن تحقيقات تجرى بشأن القتل والتدمير الذى حدث ولا عن متهمين تم القبض عليهم ومحاسبتهم. وبالنسبة للمجلس الأعلى، فقد صار يؤمن بأن الكل يعلق المشكلات على شماعته ليعفى نفسه من المسؤولية. وقد وصل انعدام الثقة لمستويات غير مسبوقة، صار معها مجرد الشك فى نوايا المجلس العسكرى سببا للتظاهر والاعتصام، وصار معها التظاهر أمام أى مؤسسة كافياً لتحرك أمنى على أساس أن هناك نوايا لاقتحام المؤسسة!
ومناخ عدم الثقة يجعلنا نعيش فى حلقة مفرغة لا سبيل لكسرها دون الاعتراف بالأخطاء والالتزام بالاستحقاقات والتخلى عن المعالجة الأمنية للأزمات السياسية.