تمتلئ العلاقة بين وزارة الثقافة بكل هيئاتها وأجهزتها من ناحية و«المثقفين» من ناحية أخرى بالعديد من المشاكل والخطوط المتقاطعة. تبدى الوزارة فى تصريحاتها العلنية أنها مع كل المثقفين والتيارات لا تفضيل لأحد على أحد، وفى مواقفها معهم تجد المنع والوقف والطرد. ينتقد «المثقفون» الوزارة فى تصريحاتهم العلنية ويحاولون دفعها نحو الطريق الصحيح طالما كانت مواقفها تحتمل، وعندما تشطح الوزارة فى مواقفها ويستشعرون الخطر على الثقافة والوزارة ينتفضون ويعتصمون. وبين الوزارة و«المثقفين» يقف النظام الحاكم الذى يعين الوزير ويمنح الميزانية.
تقول وزارة الثقافة فى سياساتها: «إن ما نواجهه لا تكفى معه قصائد حماسية محفزة، ولا كتابات مرتفعة الصوت.. وإنما ضرورة وحدة الشعب مع نظام الحكم من أجل تخطى العقبات التى تتطلب من الجميع التكاتـف والعمل فى شكل متناسق لا يشذ عن منظومته أحد». هذه السياسة عبر عنها وزير الثقافة الأسبق «فاروق حسنى» بقوله إنه أدخل المثقفين فى «حظيرة وزارة الثقافة».
ومثلما تحوى كل «حظيرة» «سقفا» يحمى و«بابا» يخرج منه المحرومون، طردت «حظيرة الثقافة» الكثيرين ممن اختلفوا مع النظام الحاكم، أو مسؤولى الوزارة، من كل ما له علاقة بهيئاتها وأجهزتها وإدارتها وامتنعت عن نشر أعمالهم أو الوقوف إلى جانبهم فى أوقات الشدة. ويبرز الكاتب والشاعر والمترجم والنقاد والممثل المسرحى «نجيب سرور»، باعتباره النموذج الصارخ على «سياسة الحظيرة»، فالرجل الذى كان على خلاف دائم مع النظام الحاكم وضيفاً دائماً فى المعتقلات لم يجد من الوزارة إلا المنع والطرد حتى وفاته فى 24 أكتوبر 1978 أثناء اعتقاله فى مستشفى العباسية للأمراض النفسية والعقلية.
وأثناء تولى يوسف السباعى وزارة الثقافة تعرض الكثير من المثقفين إلى المنع والطرد والنفى الاختيارى. وكان من بين الذين تعرضوا لهذه الممارسات الأديب بهاء طاهر الذى كان وقتها فى البرنامج الثانى بالإذاعة المصرية يهدف للتعبير عن كل التيارات الفكرية رافضا أن تفرض عليه أسماء بعينها وتيارات للحديث عنها. قال السباعى «من ليس معنا فهو ضدنا» وامتنع «طاهر» عن الانصياع فطرد من عمله ومنعت كتاباته من النشر حتى اضطر فى النهاية إلى مغادرة البلاد والعمل فى إحدى هيئات الأمم المتحدة. وفى نفس الفترة كان الناقد «رجاء النقاش» يتعرض لنفس الأسلوب أثناء عمله فى مجلة «الهلال» واضطر فى النهاية للسفر إلى قطر عام 1979، حيث ساهم فى إنشاء جريدة الراية التى لا تزال تصدر حتى الآن، وكان أول مدير لتحريرها.
استمرت وزارة الثقافة فى تلك الممارسات وبقى «ظل» الحاكم ملقياً أثره على العلاقة بين الوزارة والمثقفين وظهر بقوة فى عام 2013 أثناء ختام الدورة الثانية لملتقى القاهرة للإبداع الروائى برفض الأديب صنع الله إبراهيم، الذى منع كتابه «تلك الرائحة» من النشر 20 عاماً، تسلم جائزة الرواية العربية التى منحها له الملتقى، قائلا «أرفض قبول هذه الجائزة لأنها صادرة عن حكومة غير قادرة على منحها».
هذه السياسة التى تنتهجها الوزارة لم تتوقف عند الكتاب والأدباء وإنما تمتد لتشمل كل ما يقع تحت نطاق مسؤوليتها أو اهتماماتها. وكان أحد أكبر الصدامات الشهيرة بين الوزارة والمثقفين فى مجال السينما ما عرف باسم «قانون المائتى مليون»، وهو القانون المنظم للشركات العاملة فى المجال السينمائى الذى صدر فى النصف الثانى من التسعينيات وحدد ألا يقل رأسمال تلك الشركات عن 200 مليون جنيه، وهو ما أثار هجوماً على القرار، ومباركته من وزارة الثقافة، نظراً لأنه يقضى بوقف نشاط صغار صناع السينما ويعمل لمصلحة رجال الأعمال، وهى التخوفات التى أظهرت فيما بعد أنها كانت مبنية على أسس منطقية، خاصة مع الاتهامات القانونية بالاحتكار التى ظهرت مؤخراً ضد بعض كبار صناع السينما الحاليين.
من السينما إلى المسرح لا يختلف الأمر فى سياسة وزارة الثقافة. ففى يوليو 2010 حاول فريق عمل مسرحية «بصى» فى يوليو 2010 عرض عملهم على مسرح مركز الإبداع، ومتحف محمود مختار إلا أن كليهما رفض. وعرضت المسرحية فى النهاية فى الساحة الموجودة أمام كافيتريا المجلس الأعلى للثقافة بدار الأوبرا المصرية على مسرح صغير لا تزيد مساحته ٩ أمتار مربعة ولمدة يومين فقط، وحتى مع هذا فوجئت المخرجة باستدعائها ثانى يوم لدار الأوبرا لإبلاغها باعتراض أمن الدولة على العرض فى ليلته الأولى. وقبلها فى فبراير 2007 كان مسرح الهناجر قد أوقف عرض مسرحية «القضية 2007» مما دفع د. «حازم فاروق»، عضو الكتلة البرلمانية للإخوان المسلمين التى كانت فى المعارضة فى هذا الوقت، لتقديم طلب إحاطة عاجل لوزير الثقافة، فاروق حسنى، حول منع عرض المسرحية بعد عرضها عدة أيام «خاصة أنَ هناك تأكيدات بأن قرار المنع جاء نتيجة ضغوطٍ من سفير الكيان الصهيونى».
بعد الثورة لم تختلف سياسة الوزارة فى المنع، ولكن الذى اختلف هو النظام الحاكم الذى تتماشى الوزارة مع توجهاته، ففى أبريل 2013 منعت مسرحية «ديوان البقر» من العرض فى قصر ثقافة الغردقة. وعلى الرغم من أن المسرحية مستوحاة من كتاب «الأغانى» لأبى فرج الأصفهانى وسبق أن أخرجها الفنان الراحل كرم مطاوع فى التسعينيات إلا أن موضوعها الذى يدور حول استخدام الدين فى الإرهاب الفكرى كان سببا فى منع عرضها الآن ولم يتحرك أحد من الكتلة البرلمانية للإخوان، التى عارضت منع «القضية 20017»، للاستفسار عن منع «ديوان البقر» وهم الآن فى موقع الحكم لا المعارضة.
موقف وزارة الثقافة من الموسيقى والموسيقيين لا يتغير عن موقفها من باقى المبدعين، ولعل المثال الصارخ على سياسة الوزارة وقيادتها التى تمشى فى ظل النظام الحاكم وأهوائها الشخصية هو الموسيقى المصرى العالمى «عبده داغر» أحد مؤسسى فرقة الموسيقى العربية والذى وضع تمثال له فى حديقة الخالدين بألمانيا. لم يقدم «داغر» على خشبة مسرح دار الاوبرا المصرية سوى حفلتين فى 17 سنة. الأمر الذى منع «داغر» من كل الأماكن الثقافية التى تتبع وزارة الثقافة والتى لا تتبعها وتربطها بها علاقة ما.
«وحدة الشعب مع نظام الحاكم» لا تزال موجودة فى سياسات وزارة الثقافة. ويتلخص التغير الوحيد فى تلك المنظومة فى تغير النظام الحاكم وتوجهاته ووزرائه مما يوجب معه التخلص من «حظيرة فاروق حسنى» و«أبنائها» بحسب تعبير وزير الثقافة الجديد «علاء عبدالعزيز»، ومحاولة إنشاء جظيرة ثقافية جديدة تتماشى مع النظام الحاكم الجديد.