وصلتنى هذه الرسالة من د. سهير الزينى، أستاذة الأدب الإنجليزى. تقول الرسالة: »عن الفتنة المحزنة بين مصر والسعودية أتكلم. عن الكلمات المجحفة والأحكام الجائرة والألسنة العنصرية! عن الأقلام التى لا تتوخى الصدق والدقة، ولا تتوجس من غمط الناس حقوقهم. اسمع حكايتى: حكاية سيدة فى السبعين، ثم احكم بنفسك.
أعجب كثيراً لقول البعض إن الشعب السعودى يتسم بالكبرياء والغطرسة!! فقد عشتُ ضيفةً على هذا الشعب الكريم ربع قرن من الزمان، فما وجدت منهم إلا كل ترحاب وتواضع، ولين جانب وسعة أفق. ولا جرم أن لكل قاعدةٍ استثناء. فقد تكون هناك حالات فردية. فهل يبيح هذا وصم شعبٍ بأكمله بما تفعله قلة قليلة؟! وأىّ بلد فى العالم لا يوجد فيه الصالح والطالح، والطيب والخبيث؟!
وأبدأ حكايتى مع أهل هذا البلد الكريم منذ ربع قرن. كنت فى منتصف الأربعينيات عندما توفى زوجى، وكان - رحمه الله - رجلا نادراً بمعنى الكلمة، نادراً فى خُلقه، فى رفقه وحزمه، فى رحمته وعدله، لذلك كانت مصيبتى جسيمة وحالتى النفسية منهارة، فقررت أن ألوذ بالمدينة المنورة، وأعمل كأستاذة بالجامعة حتى تسكن عواصفى وتلتئم جراحى.
جئت كسيرة القلب، فاستقبلنى أهل المدينة المنورة أيّما استقبال! وأحسست منذ وطئت قدماى ترابها الطاهر بأننى بين أهلى وناسى. ومرت بى الأيام ما شعرتُ بالغربة يوماً، ولا عانيتُ من الوحدة لحظة. ولكم أسَرَتنى عشرتُهم الطيبة، فوددت لو أبقى بقية عمرى بين أحفاد الأنصار.
ولو ملأت صفحات لأسرد كم كانت عشرتهم طيبة لما وفيتهم حقهم، وحينما أدركنى الكبر وصارت طالباتى يتقلدن أرفع المناصب، رحن يغمرننى بودهن وترفقهن واحترامهن، ويؤكدن لطالباتهن أنه لولا جهودى معهن لما بلغن تلك المناصب!.
وكم دمعت عيناى عندما كنت أفاجأ فى الحرم الشريف بمن تصافحنى بحرارة وشوق وتُقبِّل رأسى ويدى وأنا لا أكاد أذكر وجهها، ثم تُقدِّمُنى لأهلها بحب وتوقير، فإذا بها إحدى طالباتى اللاتى درّست لها يوما من الأيام فى الماضى السحيق! فأىّ وفاءٍ هذا، وأىّ ولاءٍ وإخلاص؟!
ثم تأمّل أصحاب المنزل الذى أقطن فيه منذ أكثر من عشرين عاماً، لم أر فيها منهم إلا كل مودة وترفق، وكم ازدادت رعايتهم فى كبر سنى! فأكاد أكون اليوم ضيفة عليهم ولست مستأجرة.
وانظر إلى موظفات البنك الذى أتعامل معه وهن يتسابقن لخدمتى وقضاء حوائجى، وأنا السيدة العجوز المُحَالة إلى المعاش، التى لا حول لها ولا قوة، أجلس مستريحة على كرسى وثير والمديرة تقوم بنفسها تحيينى وتخدمنى.
وبعد إحالتى إلى المعاش، كفلتنى صديقة سعودية لعلمها أننى لا أقوى على فراق الرسول، وأمنيتى أن أموت فى المدينة وأدفن فى البقيع. ورتبت لى مقابلة مع أمير المدينة، الذى قال لى بالحرف الواحد: »من يحب جوار الرسول الكريم نضعه على رأسنا«. هذه شهادة حق، وقد جاوزت السبعين من عمرى واقتربت من لقاء ربى، شهادة لا أبتغى بها إلا وجه الله الكريم، وإصلاح ذات البين، تيمناً بقوله تعالى: »إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم«، صدق الله العظيم.