درسنا فى مقرر الفلسفة فى الثانوية العامة أن Philosophia فى اليونانية تعنى «حب الحكمة» وأن هناك فلاسفة أى «محبين للحكمة» وأن هناك «سوفسطائيين»، وهم الذين عُرِّفوا بأنهم جماعة تُجادل الفلاسفة بما لديهم من قدرة عالية على التلاعب بالألفاظ اللغوية لقلب الحق باطلاً، فيثبتون صحة قضايا متناقضة فى آن واحد نظراً لتمكنهم من مفردات اللغة. لا أخفى أننى حين كنت أستذكر دروس الثانوية العامة، ومع احترامى للفلاسفة «محبى الحكمة» قد انجذبت أيضاً لذكاء السوفسطائيين! ماذا؟ يستطيعون أن يقلبوا الباطل حقا لقدرتهم اللغوية؟ فاستنبطت أن اللغة أداة قوية للغاية.
إذن السوفسطائيون أذكياء، ولذلك بهم من الجاذبية ما يجعلك تستمع لقولهم الذى قد يُبهرك حقاً، لكن ماذا عمن يحاول أن يخلط الحق بالباطل دون لمحة الذكاء التى تميز السوفسطائيين؟ فى الواقع، إن مشاهدة عرضهم قد تصبح مؤلمة للغاية.
شاهدت هذا الحوار متداولاً على الإنترنت وفيه الأستاذ جمال صابر، مسؤول الحملة الانتخابية للمرشح المستبعد حازم صلاح أبوإسماعيل، فى برنامج ٩٠ دقيقة يتحدث إلى مقدمة البرنامج ريهام السهلى فيقول:
«أنا عارف إن حضرتك مديرة اللقاء الجميل دا الشيق، وحلقة ٩٠ دقيقة وموجودة على طول. يمكن دا عشان خاطر حضرتك لبقة وذكية وعشان خاطر حضرتك يعنى بتديرى الحوار بشكل جيد جدا.. لكن فى حاجة تانى بقى، أنا عارف ان انتو متعرفوهاش. أنا عارف إن حضرتك عارفاها… إن الأستاذة ريهام دية يهودية الأصل».
المذيعة: مين؟!
مدير الحملة: قربوا الكاميرا.
المذيعة: آه مثلا يعنى!!؟
مدير الحملة: هى يهودية الأصل مش بقول مثلا.. وأنا حرفع على حضرتك بقى دعوى بكرة أطالبك فيها بقى بكل شىء قانونى. آدى المستندات. بالمستندات وحوريها وحرفع عليك قضية بكرة. وانت اثبتى العكس بقى! تقدرى؟ إحنا فى دولة القانون مش قادرين نثبت العكس».
المذيعة: انت بتعمل مقارنة يعنى؟!!
مدير الحملة: أنا بقول كلام حقيقى، انت أصلا يهودية الأصل.
المذيعة: أنت بتبين أنك إزاى ممكن تتبلّى على وأنا قاعدة؟!!
مدير الحملة: بالضبط كده! وأنا طبعا آسف لحضرتك جدا.
المذيعة: انت بتضرب بى أنا مثل إن أنا «يهودية الأصل» عشان تفرج الناس على الهواء إزاى ممكن حد يتبلى على حد.
مدير الحملة: بالضبط كده. وأنا آسف فعلا إنى قلت الكلام دا طبعا وإن حضرتك بعيد عن الكلام دا خالص».
بعد ٢٤ ساعة يظهر نفس مدير الحملة فى برنامج «البلد اليوم» مع مقدمة البرنامج عزة مصطفى ليقوم بنفس «العرض» إلا أنها تنفعل عليه فتقول: «أنا لا أسمح لحضرتك حتى لو اعتذرت أنك تتهمنى بأننى يهودية» فيرد: «أنا لم أتهمك»... ولكن التصادم يتصاعد إلى أن تقوم عزة مصطفى بما يشبه طرده من البرنامج قائلة: «أنا بعتذر لوجود حضرتك معايا».
كم يتضح الفشل الذريع لمثل هذه «الأطروحة» أو «الحجة» التى حاول الأستاذ جمال صابر أن يتسفسط بها، دون ذكاء السوفسطائيين، إذ إن فكرة المقارنة بين «الادعاء» عن طريق مستندات وهمية تدل على ديانة شخص ما، لا يمكن أن تُعقد من الأساس، لأن الديانة لا تُكتب فى أى مستند رسمى أمريكى - إن كان هدفه يعنى عقد مقارنة بين تلك المستندات «الأجنبية» التى يحملها وبين المستندات التى قُدمت بالفعل للجنة العليا للانتخابات توثيقا لحصول والدة حازم صلاح أبوإسماعيل على الجنسية الأمريكية! فالمستند «الوهمى» الوحيد الذى باستطاعته تقديمه يجب أن يكون مستندا مصريا، حيث مازالت تُكتب خانة الديانة!
السؤال الأعمق فى كل هذه السفسطة الفاشلة: هل «اكتشاف» أن مواطنة مصرية «يهودية الأصل» أصبح «تبلى على الناس» أو «سبة» أو «تهمة» قد تفقد مذيعة ثقة الناس بها أو مصداقيتها أو وظيفتها إن صح القول إن لها أصولاً أو جذوراً يهودية، رغم أنه من «المفترض» أن يكون المسلمون والمسيحيون فى هذا البلد من الموحدين بالرسالات السماوية كلها؟ وأى نوع من المُشاهدين هم من يتابعون هذا «التبادل» بين المذيعة ومدير الحملة ويرون أنها لو كانت ديانتها يهودية بالفعل فإن فى هذا ما يُشينها أو يسىء إلى سمعتها؟
الحكمة والسفسطة: الأولى لها عمقها وصدقها ونُبلها لكونها مبنية على حق، والثانية لها جاذبيتها «الذكية» وإن كانت مبنية على الباطل. أما الفشل الذريع فى الطرح وتقديم البرهان فهو أمر مؤلم بالفعل!!