والذى زاد النكبة نكبة أنه فقد- بعد وفاة عمه بأيام- زوجته الحبيبة خديجة. أظلمت الدنيا فى عينيه، واستشعر القلب وحشة لا تطاق. وحين يعود إلى البيت يُنكر البيت حين لا يجد خديجةّ! لا يجد من تمسح له الدمعة أو تشاركه البكاء. لا يجد من تشد أزره وتقول له: «يا ابن عم لن يخزيك الله أبدا». لا يجد من تعد له طعام العشاء وتجلس بجواره فتمسح عنه عناء اليوم. صار يعود إلى البيت فيرى وجوه بناته اليتامى غارقات فى الحزن. أين وجهها الحبيب أين؟ أين ملامحها الطيبة ورائحتها الذكية ووجودها اللطيف؟ أين عشرة الأيام على الحلوة والمرة؟ وذكرياتهما عن أبنائهما وهم يكبرون أمام أعينهما، ومئات التفاصيل الصغيرة التى تصنع الحياة؟
ماتت خديجة ولم تمت الذكريات. ذكرى لقائهما الأول حين طلبت منه أن يسافر فى تجارتها إلى الشام. ذكرى التوفيق الذى صاحبه فى السفر والتجارة، وأخلاقه التى لفتت انتباه غلامها «ميسرة» فحكاها لها عند عودته. كيف وقع حبه فى قلبها منذ اللحظة الأولى! وتعمق مع مرور السنين. وكيف صارحت صديقتها نفيسة بأنه الرجل الذى انتظرته ورفضت فى انتظاره عشرات الخاطبين. كلهم يتوقون لبنت المجد والرياسة، والحسب والنسب، والجمال والثراء.
وفيما انحاز أبوزهرة فى كتابه «خاتم النبيين» للقول المشهور بأن عمرها وقت الزواج كان أربعين عاما، فقد انحاز العقاد فى كتابه «فاطمة الزهراء والفاطميون» إلى رواية ابن عباس بأن عمرها كان 28 عاما فقط، كونها أنجبت ستة أبناء وبنات بينهم تفاوت فى الأعمار، ويصعب تصور هذا لو تزوجت فى الأربعين.
مازال محمد يذكر حتى اليوم دهشته البيضاء حين لمّحت له نفيسة، وكيف أسرع لخطبتها مصطحبا معه عميه الأثيرين: أبا طالب وحمزة، وكيف رحب عمها به، والتم شمل الحبيبين.
خديجة الكبرى، نعمة الله على رسوله لمدة خمسة وعشرين عاما، تحن عليه ساعة قلقه، تؤازره أيام المحن، تواسيه بمالها ونفسها، تُعينه على إبلاغ الرسالة، تشاركه مغارم الجهاد.
خديجة الكبرى، كبرى لأنها كبيرة، كبيرة فى قلبها، كبيرة فى عقلها، كبيرة فى عطائها، فى حنانها، آمنت به حين كفر به الناس، وصدقته حين كذَّبه الناس، وأشركته فى مالها حين حرمه الناس.
سيظل محمد يذكرها طول العمر، ويقول كانت وكانت، وحتى بعد وفاتها وزواجه من غيرها لم تستطع واحدة أن تحتل مكانها، أو تزحزح حبها عن قلبه، حين لمح قلادتها التى أرسلتها ابنتها زينب فى فداء زوجها الأسير، رقّ قلبه رقة شديدة لذكرى الحبيبة، وتمنى على أتباعه أن يردوا قلادتها ويفكوا الأسير. وإذا سمع خطوات أختها هالة هتف على الفور: اللهم هالة. ويسرع إليها ويوسع لها ويغمرها بالترحيب.
خديجة، ود الحبيبات، وإخلاص الزوجات، وحنان الأمهات. سلام الله عليك يا أم المؤمنين.