x

كمال مغيث شهر الإيمان والفرح كمال مغيث الإثنين 16-08-2010 07:30


كانت نسائم الرحمة والأمل والفرح تغمرنا ونحن نتابع اقتراب شهر رمضان، فقد كنا مؤمنين بأنه شهر الرحمة، والشهر الذى تسلسل فيه الشياطين، ونزل فيه القرآن، وتنفتح فيه أبواب السماء لتقبل دعاء الملهوف، وتوبة التائب ودعوة المظلوم، وأوله مغفرة وأوسطه رحمه وآخره عتق من النار، هكذا كان الناس يقبلون على الشهر الفضيل الكريم بقلوب عامرة بالدين، مشتاقة إلى ذوق حلاوة الإيمان اشتياق المحب إلى القرب والوصول.


ولأن المصريين شعب يحب البهجة، ويؤمن إيمانا راسخا بأن الله جميل يحب الجمال، فقد مزجنا هذا كله بأشكال لا تعد ولا تحصى من مظاهر الفرح والسعادة، غالبا ما تبدأ بحصولنا على أشكال متنوعة ومختلفة من «الإمساكيات»، وهى المطبوعات التى تحدد مواعيد الإفطار والسحور والإمساك، وكانت تختلف من حيث الألوان والحجم وعدد الصفحات والشكل، وهى فى الأصل مطبوعات دعاية لشركات ومحال، وكنا نتسابق فى الحصول عليها وتبادلها0


وكانت تبهجنا قبل قدوم الشهر الأغانى المميزة التى أوحشتنا، تنطلق من «الراديوهات» القليلة فى البلد، «رمضان جانا وفرحنا به بعد غيابه أهلا رمضان» لمحمد عبدالمطلب، أو «وحوى يا وحوى إياحه، رحت يا شعبان جيت يا رمضان» لأحمد عبدالقادر، وقد كتبت ذات مرة أن عبارة «وحوى إياحه» هى عبارة فرعونية تعنى «مرحبا يا قمر» وقد أنشدها المصريون للترحيب بعودة «إياحه حتب» أو قمر الزمان، أم الملك أحمس، بصحبة الجيش من فلسطين بعد انتصاره على الهكسوس0


ثم تصحبنا أمهاتنا أو جداتنا فى مشوار بهيج للسمكرى الذى يصنع الفوانيس فتشترين لنا الشموع والفوانيس الملونة المصنوعة من الزجاج والصفيح، تلك الفوانيس التى كانت تحمل عطر التاريخ والثقافة، لم نكن قد عرفنا الفوانيس البلاستيكية التى بلا معنى ولا هوية ولا رائحة0


وقبيل الشهر الفضيل بأيام كانت تقام أفران الكنافة، دوائر من الطوب اللبن بفتحات للوقود وخروج العادم، تعلوها صاج لتسوية الكنافة، ومساء نذهب بالدقيق والوقود من القش لعمل الكنافة والقطايف.


ونسأل بعضنا بعضا أول أيام رمضان: من منا صائم؟ وننشد أهازيج طفولية: «يا فاطر رمضان يا خسران دينك، كلبتنا السودة، تقطع مصارينك/ ياصايم رمضان يا عابد ربك، كلبتنا البيضا تبوسك من خدك»، وبعد العصر يأخذ منا العطش والجوع كل مأخذ، ويدور داخلنا صراع ضار لاختبار قدرتنا على التحمل، حتى ينطلق صوت المؤذن معلنا ظفرنا بالانضمام إلى عالم الكبار المكلفين0


وفى المساء نلتف حول الراديو فى الغرفة المظلمة، إلا من لمبة نمرة خمسة، حيث نطير مع أنغام ريمسكى كورساكوف الساحرة، وصوت زوزو نبيل المعبر على بساط الريح، أو فوق جناح طائر الرخ العملاق، فنحط مع شهرزاد فى بلاط السلاطين أو فى كهوف المردة والجنيات، أو قصور المرجان واللؤلؤ فى قاع البحر المحيط0


وبعد العشاء والتراويح تضاء الكلوبات ويقبل الأقارب والحبايب رجال ونساء وشباب وأطفال، وبعد السؤال عن الصحة والأخبار والغائبين، تدور علينا أكواب العرقسوس والتمر هندى، واليوسفى، وأطباق التمر والسودانى، ونخرج فى منتصف الليل لنواصل ابتهاجنا بالسمر أو ألعاب «استغماية وعسكر وحرامية»، وقبيل الفجر يقبل من بعيد صوت المسحراتى وهو يدق على طبلته دقاتاً محببة، وينادى اسم أبى وإخوتى الكبار، وربما دق بعصاته على بابنا دقاً أليفاً منغماً، إذا كنا شتاء والليل طويل، وظن أن من بالمنزل يغطون فى سبات عميق0


وفى الصباح ينطلق الناس إلى أعمالهم بقلوب راضية ونفوس مطمئنة، فيؤدونها كما يؤدونها طوال العام، بلا أدنى رغبة فى التخفف من العمل، ذلك التخفف الذى لا يتسق إلا مع العمل الريعى والرعوى والوظائف الشكلية، أما العمل الزراعى – أساس الحضارة والثقافة المصرية – فلا يمكن التخفف منه، فكيف يمكن للفلاح أن يقصر مثلا، فى سقيا بهائمه وإطعامها ورعايتها،


وكيف يتوانى عن رى أرضه وتنقيتها من الأوشاب والآفات، فى رمضان أو غير رمضان؟ وكيف يتخفف الفلاحون من العمل؟ وهم يوقنون بأن «العمل عبادة»، وبأن «الإيد البطالة نجسة»، وأن من غير اللائق بالمؤمن الحق أن يقايض الله على أداء شعائره وعبادته بالتخفف من واجبه تجاه الناس والوطن.


[email protected]

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية