أندرو باسيفيتش Anderew Bacevich هو أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية فى جامعة بوسطون، وكان قد أصدر خلال السنوات الأخيرة من إدارة بوش كتابه: «حدود القوة نهاية الاستثنائية الأمريكية»: The Limits of Power the End of America Exceptionalism.
وقد أقام الكتاب على أساس من الحروب الأمريكية فى أفغانستان والعراق وما أظهرته من حدود وقيود على القوة العسكرية الأمريكية واستخداماتها. ومؤخراً أراد أن يطور هذا المفهوم وأن يطبقه ليس فقط على الخبرة الأمريكية ولكن أيضاً على الخبرة الإسرائيلية وعملياتها العسكرية فى المنطقة وخاصة منذ الثمانينات.
وهو فى البداية ينبه أن أحداً لا يشك أن إسرائيل إقليمياً وأمريكا عالمياً تتمتعان بسيطرة عسكرية لا يستطيع أحد أن يشكك فيها، ففى نطاق محيط إسرائيل القريب فإن دباباتها وقذائفها وبواخرها البحرية تعمل بفاعلية وهو نفس الشىء بالنسبة للدبابات وقذائف البواخر البحرية الأمريكية أينما ذهبت.
ولكن ماذا بعد؟ فالأحداث أوضحت بشكل متزايد أن السيطرة العسكرية لا تترجم إلى ميزة سياسية محددة، وهى بدلاً من أن تدعم مستقبل السلام فإنها تنتج تعقيدات أكبر، وعلى الرغم من الضربات الصعبة التى يتلقاها «الإرهابيون» فإنهم لا يخافون، وظلوا غير نادمين ويعاودون من جديد.
بدا هذا بوضوح بالنسبة لإسرائيل فى عملية «سلام الجليل» وتدخلها فى لبنان عام 1982 وهو نفس ما واجهته الولايات المتحدة بعد حقبة من الزمن خلال عملية «إعادة الأمل»، وبدلاً من تحقيق السلام واستعادة الأمل فى كل من الصومال ولبنان فإن كلتا العمليتين انتهت بالإحباط والإرباك والفشل، بل إن مثل هذه العمليات كانت مبشرة بالأسوأ، فمع الثمانينات كانت أيام مجد جيش الدفاع الإسرائيلى قد ولت، فالانتفاضة الأولى «1987 - 1993»، والانتفاضة الثانية «2000- 2005»، وحرب لبنان 2006 وعملية «الحديد المنصهر» والتوغلات الإسرائيلية فى غزة «2008 - 2009» جميعها قد أثبتت أن الحروب ضد القوات غير النظامية ترتب نتائج مليئة بالمشكلات.
أما على المستوى الأمريكى فقد نجحت العسكرية الأمريكية فى أن تكرر تجربة جيش الدفاع الإسرائيلى، فبعد 11/9 اندفعت جهود واشنطن لتحويل أو «تحرير» الشرق الأوسط الكبير، وفى أفغانستان والعراق بدأت حرب بوش العالمية ضد الإرهاب بشكل فعال بما فيه الكفاية حيث عملت القوات الأمريكية بسرعة وفاعلية متدفقة والتى كانت العلامة المميزة للعمليات الإسرائيلية، فبفعل «الصدمة والرعب» سقطت كابول وتلتها بعد أقل من عام ونصف بغداد، غير أن ادعاءات النجاح قد أثبتت أنها غير ناضجة بشكل فادح فالحملات التى أعلن أنها سوف تنتهى فى أسابيع استمرت لسنوات، فى الوقت الذى ظلت فيه القوات الأمريكية تناضل ضد الانتفاضات التى واجهته.
ويستخلص باسيفيتش أنه إذا كانت ثمة خلاصة شاملة من الحروب الأمريكية ومثيلاتها الإسرائيلية فهى أن النصر الحاسم أمر بعيد المنال ووهمى. ويؤيد استخلاصه أنه مع عام 2007 فإن هيئة الأركان الأمريكية نفسها استسلمت حول إمكانية النصر، وإن كانت لم تسلم حول الحرب، فأولاً فى العراق ثم فى أفغانستان تحولت الأولويات حتى وضع كبار القادة توقعاتهم بالفوز على الرف وبحثوا بدلاً من هذا عن عدم الخسارة، وفى واشنطن وكذا فى المراكز القيادية الأمريكية فإن تفادى الهزيمة المباشرة برز باعتباره المقياس الذهبى للنجاح.
وهكذا تداعمت هذه الرؤية ابتداء من قائد الحرب الأفغانية ديفيد بترويس، الجندى الأكثر احتفاء به فى هذا العصر الأمريكى، إلى باراك أوباما القائد العام والحائز على جائزة نوبل للسلام، فقد أصبح واضحاً أنه فى الصراعات التى تجد الولايات المتحدة الأمريكية نفسها متورطة فيها فإن الحلول العسكرية ليس لها وجود وهكذا، فإن توقع أن تحل الحروب الكبيرة المشكلات الكبيرة قد ولى إلى الأبد، وأصبح بالتأكيد أن أى إسرائيلى أو أمريكى فى عقله السليم لن يعتقد أن اللجوء الدائم إلى القوة العسكرية سوف يعالج أيا من المشكلات التى تغذى المعاداة لإسرائيل وأمريكا عبر العالم الإسلامى.
فى ضوء هذا ليس غريباً أن نرى ظهور نظريات ودعوات فى الولايات المتحدة تدعو إلى ما تسميه «القوة الناعمة» أو «القوة الذكية»، التى لا تعتمد فقط على القوة العسكرية وإنما تستخدم عناصر أخرى من القوة الاقتصادية والثقافية والتكنولوجية، وقوة النموذج والتعاون مع الآخرين، وأن يدخل هذا فى مفاهيم الإدارة الحالية نفسها. أما فى إسرائيل فإن مفاهيم القوة العسكرية وقوة الردع مازالت مسيطرة على النخبة العسكرية والسياسية ولعل هذا هو ما يمثل معضلة الوضع الإسرائيلى، بل فى تصورنا أنه مع رسوخ مفهوم القوة العسكرية والردع فإن هذه النخب سوف تظل تتحين الفرصة لكى تصحح ما أصاب مفهوم الردع التقليدى الذى عاشت عليه فى المنطقة بعد أن اهتز خلال حرب لبنان عام 2006 وفشلها فى إخضاع الفلسطينيين رغم كل ما استخدمته من قوة عسكرية.