مع عقارب العاشرة صباحاً، يبدأ يومه المعتاد على مركبه الصغير، لم يتغير مشهد عم «علي» الصياد منذ 30 عاماً منذ كان في الـ12 من العمر إلا في الآونة الأخيرة عندما اشتدت أزمة السولار.
داخل منطقة الماكس في الإسكندرية وعلى مركبه الخاص، جلس عم «علي» أمام منزله يصلح شبكة الصيد الخاصة به، فهي مصدر رزقه الوحيد، ليبدأ حديثه معنا قائلاً «مافيش سولار ومش معقول أشتريه كل يوم من السوق السودا بضعف التمن».
بهذه الكلمات عبر عن حال الصيادين بعد تفاقم أزمة السولار ليضيف قائلاً: «الجركن سعة 20 لتر ثمنه في محطة البنزين 20 جنيه، وثمنه في السوق السودا 40 جنيه، دا يبقى حلال ولا حرام، الناس هنا مش لاقيه تمن رغيف العيش الحاف، ومش عارفين نروح لمين نشتكى له».
وعن طريقة حصوله على السولار قال: «أي محطة بتصرف لنا السولار برخصة الصيد، وكمان معاها ورقة فيها جدول بيتم فيه تسجيل الكمية اللي بناخدها، ومش مسموح لنا بأكتر من جركن واحد في اليوم، ودى أقل كمية بنحتاجها حسب سعة موتور بتاع كل مركب لكن لو المحطة مافيهاش سولار بنعاني الأمرين لما نلاقيه».
وتابع: «فيه محطة على المرسى في بحري وساعات بنروح نجيب منها السولار لما الدنيا تقفل هنا لكنها بعيدة عننا أوي والمشوار ليها بالمركب ياخد جركن بنزين يعنى اللي جاى منها على قد اللي رايح».
وأضاف عم «علي» بنبرة أسى: «الصيد ده شغلتي الوحيدة وماعرفش غيرها، وأنا وارثها أباً عن جد ولو مافيش سولار بنفضل في البيت ودي أصعب حاجة على الصياد، دا بيحس كأنه محبوس في سجن».
زيارة واحدة إلى منطقة الماكس تشهد على تشريد عشرات الأسر من الصيادين بسبب أزمة السولار، فأمام بيت آخر من بيوت المنطقة التى يقسمها ممر مائى إلى نصفين تراصت على جانبيه بيوت متلاصقة ينضح منها الفقر والبؤس الشديدين لا يتجاوز ارتفاعها عن دورين ولا تزيد مساحة أكبرها على 50 متراً ومعظمها لم يعرف الطوب أو الحديد طريقه إليه، فالحوائط من الخشب والأسقف من الصفيح، ووجودها على ممر مائى جعل الصيد هو الحرفة الرئيسية لجميع سكانها.
مصطفى (24 سنة) ومعه 3 صيادين آخرين يقاربونه في العمر، جلسوا جميعاً على المركب الذى يعملون عليه يقومون بإصلاح الشباك وتجهيزها لرزق قد يأتي في أى وقت، وما أن اقتربنا وسألناهم عن حال الصيد والصيادين حتى أجابنا «مصطفى» قائلاً: «كنا زمان بناخد السولار اللي نحتاجه من أي محطة بالدفتر المختوم من هيئة الثروة السمكية، ومكتوب فيه إننا صيادين، والأزمة اللي حاصلة دلوقتى في السولار مش غلطة العامل أو صاحب البنزينة، دي غلطة المسؤولين الكبار اللي مش بينزلوا للناس ولا حاسين بيهم أصلاً».
وشكى «مصطفى» من تقاعس المسؤولين عن القيام بدورهم في مواجهة الأزمة ومنع تهريب السولار المدعم، كما حمّل الدكتور محمد مرسي، رئيس الجمهورية، مسؤولية ما يتعرضون له من مشاكل، قائلاً: «إحنا سمعنا إن فيه مراكب كبيرة بتبيعه للسفن في عرض البحر، وكمان عربات بترميه في الصحرا لكن إحنا ذنبنا إيه في ده؟ ولو المسؤولين مقدروش يمنعوا ده يبقى يمشوا وييجي غيرهم يقدر يحل مشاكل الناس ويتقوا الله فينا، وكمان الريس مرسي ليه مش حاسس بينا ولا بيعمل أى حاجة علشانّا، منه لله هو المسؤول عن كل اللي إحنا فيه»، بحسب قوله.
وواصل مصطفى: «إحنا أساساً ممكن نفضل أسبوعين من غير كيلو سمك واحد، ونفايات الشركات اللى بتصرف في مياه الماكس بتخلي السمك يموت أو يهرب يعنى مش ناقصين أي حاجة تانية لا نقص في السولار ولا غيره».
آلاف الأسر أصبحت عاطلة عن العمل ولا تجد قوت يومها مما يهدد بكارثة إنسانية تتعدى البطالة والتشرد إلى الجوع، بل وفي بعض الأحيان التهديد بالسجن، مثلما حدث مع «هنية السيد» التي بدت وكأنها عجوز في العقد السادس من عمرها رغم أنها لم تتجاوز الأربعين عاماً والتي تواجه شبح السجن بسبب تأخرها في سداد الديون المتراكمة عليها والتى وصلت إلى 27 ألف جنيه لا تملك منها جنيهاً واحداً، على حد قولها، اقتربنا منها وتحدثنا إليها لتفصح لنا عن همومها قائلة «طول عمرى ست بميت راجل بس أزمة السولار قطمت ضهري علشان الديون اللي عليا»، هكذا وصفت «هنية» حالها وخوفها من الحبس في أي لحظة، وأضافت «قبل الأزمة كنا بنبيع كيلو السمك البوري بـ20 جنيه، لكن بعد السولار ما شح ارتفع سعره إلى 30 جنيه وأكتر، وأصلاً ياريته موجود دا مفيش سولار يخلى المراكب تنزل تصطاد».
ولم تقتصر أزمة نقص السولار على أصحاب المراكب الصغيرة بل امتدت لتشمل أصحاب مراكب الصيد الكبيرة والتي تظل في عرض البحر لما يزيد على 20 يوماً، وهم يعانون من نقص السولار بشكل أكبر فلو كان أصحاب المراكب الصغيرة يستطيعون شراءه من السوق السوداء فالمراكب الكبيرة لا يمكن التعامل معها بنفس الطريقة حيث تتجاوز احتياجاتها من السولار إلى 200 لتر في اليوم الواحد.
أما عم «محمد حسين»، 56 سنة، وهو عامل على أحد مراكب الصيد الكبيرة التي توقفت على المرسى بمنطقة بحرى فقال: «لو أصحاب المراكب الصغيرة بيعانوا من نقص السولار إحنا بنعانى بشكل أكبر، فهم يستطيعون التصرف وشراءه من السوق السوداء لكننا لا نستطيع ذلك فموتور المركب الكبير يحتاج ما لا يقل عن برميل سعته 200 لتر يومياً».
وواصل عم حسين حديثه ليضيف قائلاً «فيه محطة بنزين هنا في بحرى بنمون منها ومسؤول المخابرات الموجود بيقيد الكمية حسب حاجة كل مركب لكن رغم كدا فيه ناس بتهرب السولار لمراكب كبيرة في عرض البحر لأن مكسبه كبير جداً، فمثلاً المراكب الكبيرة اللي زى بتاعتنا دي بيكون فيها بالونات شبه المنطاد وفي حالة غرق السفينة يتم نفخها بالهواء لتنقذ السفينة من الغرق، لكن بعض المهربين يستخدمونها في التهريب فبيملوها بالسولار ويقوموا بنقلها إلى السفن الكبيرة في عرض البحر».
وأكد عم حسين أن «أصحاب المراكب الكبيرة يخسرون آلاف الجنيهات يومياً مما يجعلهم يلجأون لقطع الطرق وهو ما حدث أكثر من مرة فى كفر الشيخ ورشيد».
ويعانى صيادو الإسكندرية وكل محافظات مصر، التي تعتمد على الصيد بشكل رئيسي كمصدر دخل لمعظم أبنائها، منذ نشوب أزمة السولار، مما يتسبب في تشرد آلاف الأسر التي تعمل في الصيد والأعمال المتعلقة، بينما تشير أصابع الصيادين إلى أن السبب في الأزمة هو عدم الرقابة على محطات الوقود من جانب مسؤولى التموين.
«محمد خليفة» القائم بأعمال مدير مديرية التموين بالإسكندرية قال «السولار موجود ومتوفر فى المحافظة لكن المشكلة كانت بسبب صيانة أحد معامل تكرير البترول فى العامرية والذى تعتمد عليه المحافظة بشكل رئيسى في توفير احتياجاتها من السولار، والمنتج موجود بالفعل لكنه قليل وبالنسبة لتوفيره لمراكب الصيد تحديداً، فاللجنة العليا للمواد البترولية بالإسكندرية تدرس كيفية توفيره للصيادين حسب سعة موتور كل مركب بعد أن رصدنا أكثر من واقعة لتهريب السولار المدعم وبيعه بأسعار عالمية وبالعملة الصعبة للمراكب والسفن الدولية في عرض البحر».
واعتبر الدكتور نادر نورالدين، مستشار وزير التموين الأسبق، فيرى أن أزمة السولار يكون تأثيرها الأكبر فى حرفة الصيد على تكاليف النقل بين المحافظات، فعدم توفر السولار يضاعف سعر تكاليف نقل الأسماك بين المحافظات وبعضها البعض، وهو ما ظهر مؤخراً بالفعل، حيث ارتفع سعر السمك البوري من 30 إلى 40 جنيهاً والبلطي من 12 إلى 20 جنيهاً.
وأرجع «نورالدين» الأزمة بشكل رئيسى إلى تهريب السولار خاصة في بحيرة المنزلة مما أدى إلى بيعه في السوق السوداء بضعف ثمنه تقريباً، وأزمة السولار في مجال الصيد لا تقتصر على عدم توافره للمراكب التي تقوم بالصيد فقط، بل إن المزارع السمكية التي توفر 60% تقريباً من احتياجاتنا من الأسماك تعتمد على مواتير تعمل بالسولار»، بحسب قوله.
وأضاف: «الغريب في الأمر أن الأزمة تفاقمت بعد إعلان الدكتور باسم عودة، وزير التموين، عن سرعة حل الأزمة ومشكلة السولار التي أدت لارتفاع أسعار معظم المواد الغذائية وبالتالي زيادة نسبة التضخم والتي تجاوزت 1.7% خلال شهر أبريل فقط حسب تقرير الجهاز المركزي للمحاسبات وهو تقرير حكومي رسمى يحمل إدانة لوزير التموين الذي تفرغ لـ(الشو) الإعلامي، والحديث عن إنجازات وهمية وترك الأزمات تطحن المواطن البسيط مما يستوجب إقاله هذا الوزير»، بحسب قوله.