لم يتوان رئيس الوزراء التركى، رجب طيب أردوجان، عن مطالبة الحكام المستبدين باحترام إرادة شعوبهم، وإرساء قواعد الديمقراطية، وحقوق الإنسان، وحينما تعلق الأمر بإرادة الشعب التركى وصفهم بـ«الرعاع» وكشف عن «الوجه الحقيقى لديكتاتور لا يقبل انتقاده أو معارضته»، حسب وصف المراقبين. ورغم ما حققته حكومة «العدالة والتنمية» من إنجازات على صعيد التنمية الاقتصادية منذ عام 2002، فإنها لم تصل إلى حد الكمال وهناك ملفات سياسية لم تطلها إصلاحات الحكومة، بل تعاملت معها بتجاهل حين وبالعنف حين آخر.
ففى الوقت الذى تبنى فيه أردوجان طفلة سورية تعرض أبواها للقتل برصاص الجيش السورى ومنحها الجنسية التركية، أغفل أن مئات الأطفال الأكراد فقدوا ذويهم على إثر الهجمات التركية على المواقع الكردية التى يسقط فيها ليس فقط قوات الجيش، لكن مدنيون وأطفال أيضاً. لا يقف الأمر عند هذا الحد، فقد أصبحت تركيا أكبر سجن للصحفيين فى العالم، بشهادة منظمة «مراسلون بلا حدود»، وقيدت حريات المعارضة العلمانية، كما كتبت السطور الأخيرة فى تاريخ سيطرة الجيش على الدولة من خلال الملاحقات القضائية والاعتقالات. وأصبح الحديث عن «ربيع تركى» بمثابة أول خسارة لأردوجان هزت صورته كزعيم يحظى بشعبية، وأثارت شكوكاً حول مستقبل حزب «العدالة والتنمية»، وفرص تحقيق حلم أردوجان بالوصول إلى رئاسة البلاد عام 2015.
«العسكر».. من حراس «الأتاتوركية» إلى زنازين «العدالة والتنمية»
بعد سنوات من هيمنة الجيش التركى على الحياة السياسية وتنفيذه عدة انقلابات عسكرية على الحكام السياسيين، تمكنت حكومة حزب «العدالة والتنمية» من كتابة السطور الأخيرة فى تاريخ سيطرة المؤسسة العسكرية على السياسة، وذلك من خلال التعديلات الدستورية وعدد كبير من الاعتقالات والمحاكمات الجماعية التى طالت كبار ضباط وقادة الجيش خلال العقد الماضى. رسمت حكومة رئيس الوزراء رجب طيب أردوجان معالم عهد جديد تؤسس من خلاله الجمهورية التركية الثانية، بعد جمهورية مصطفى كمال أتاتورك، عهد استبدلت فيه الأدوار، فتقهقر العسكر الذين يوصفون بـ«حراس الأتاتوركية» إلى الصفوف الخلفية، وتقدم الحزب متحدياً كل من يقف أمامه، «انقلاب سلمى».. رد به أردوجان على انقلابات العسكر المتعاقبة، وهو ما أدى إلى موجة من الاستقالات الجماعية لجنرالات وضباط خوفاً من أن تلاحقهم الاتهامات بالتآمر ضد الحكومة.
وأعلن وزير الدفاع التركى عصمت يلماز مؤخراً أن عدد الضباط وضباط الصف الذين أنهوا خدمتهم بالقوات المسلحة فيما بين عامى 2005- 2013، سواء بالاستقالة أو بطلب التقاعد المبكر بلغ 44 ألفا و945 ضابطا. ونفذ الجيش 3 انقلابات عسكرية فى الأعوام (1960- 1971- 1980)، وحركة انقلابية عام 1997، حيث أسقطت حكومة الأب الروحى للإسلاميين نجم الدين أربكان. فالدستور التركى يكفل للمؤسسة العسكرية الحق فى التدخل لتغيير الحكومة دون أن يعتبر ذلك انقلابا عسكريا، الأمر الذى جعل المؤسسة العسكرية «الحامى والوصى» على العلمانية الأتاتوركية.
ويعتقد المحللون أن تجربة حكم الإسلاميين بقيادة أربكان كان لها أثر كبير فى نجاح أردوجان، الذى وضع نصب عينيه منذ يومه الأول التحديات التى قد تعيق بقاءه فى السلطة، وفرضت حكومة الحزب على المشهد السياسى التركى علمانية «أردوجانية» تختلف عن «العلمانية الأتاتوركية»، كما عبر عنها أردوجان، فى حفل تأسيس الحزب عام 2001 بأنه «ليس حزباً إسلامياً ولا أيديولوجياً، بل حزب ديمقراطى محافظ، ديمقراطى لأنه يبنى النظام الديمقراطى الغربى، ومحافظ لأنه يستثنى من هذا النظام ما يتعارض مع هوية وتقاليد الشعب التركى».
وبخلاف السيناريو التقليدى بين المؤسسة العسكرية والحكومات السابقة، خطت حكومة العدالة والتنمية خطوات تدريجية لإقصاء الجيش عن الحياة السياسية وكانت أول معركة يخسرها الجيش هى رئاسة الجمهورية عام 2007 التى بدا فيها رافضاً لعبد الله جول كأول رئيس ذى توجهات إسلامية فى تركيا، حيث أصدرت هيئة الأركان بياناً عبر موقعها على الإنترنت حذرت فيه من تنامى الأصولية الإسلامية وخطرها على العلمانية، ووصف المحللون هذا البيان بـ«الانقلاب الإلكترونى».
وجاءت مسألة تورط عسكريين فى الجيش فى قضية منظمة «أرجينيكون» التى كانت تخطط لانقلاب يطيح بالحكومة عام 2003 واغتيال أردوجان لتضع حزب العدالة والتنمية فى موقف قوة، ثم تكشف الحكومة عن محاولة أخرى للإطاحة بها والتى عرفت بـ«مخطط المطرقة»، حيث اعتقلت السلطات التركية العشرات من العسكريين المشتبه فى تورطهم فى تلك المؤامرة، بعضهم كان فى الخدمة وبعضهم متقاعد.
ومن خلال استفتاء شعبى عام 2010، صدق الشارع التركى الذى تجاوزت مشاركته 70% على طموحات أردوجان، واستطاع أن يعزز انتصاره على المؤسسة العسكرية، من خلال إدخال تعديلات دستورية، تحدد دور الجيش ومجلس الأمن القومى فى الحياة السياسية. وقد تمثلت أهم التعديلات فى إلغاء المادة التى تقضى بعدم محاكمة العسكريين الذين نفذوا انقلاب عام 1980، والسماح بمحاكمة العسكريين أمام محاكم مدنية، فضلا عن تقييد سلطة القضاء فيما يتعلق بحل الأحزاب السياسية.
ورغم أن الحكومات التركية اعتادت أن تواجه انقلابات عسكرية، فالأمر يبدو مختلفا الآن بعد خروج المتظاهرين فى عدد من المدن التركية، ونشر ناشطون أتراك صوراً لأحد أفراد الجيش التركى وهو يوزع الكمامات على المتظاهرين لحمايتهم من الغاز المسيل للدموع وهو ما يثير تساؤلات حول مستقبل المعركة بين أردوجان والمؤسسة العسكرية. ويرى محللون أن أردوجان انتصر فى حرب تكسير العظام التى تدور مع الجيش إلا أنه من المبكر الحكم على موقف الجيش تجاه المظاهرات الحالية، ولكنه ليس مستبعداً فى حال امتدت الاحتجاجات إلى المدن الصناعية والمدن الحدودية وأسفرت عن آثار سلبية اقتصادية وأمنية.