أصبح ميدان «تقسيم» التركي في بؤرة الضوء ليس كمنتزه سياحي شهير في قلب إسطنبول، لكنه ظهر كساحة كر وفر بعدما وقعت اشتباكات بين متظاهرين أتراك وقوات الأمن، التي فضت اعتصامًا بمخيم في حديقة «جيزي بارك» اعتراضًا على خطط لبناء مركز تجاري في وسط المدينة.
وخرج محتجون ضد سياسات الحكومة التركية رفضًا لاقتلاع أشجار في ميدان «تقسيم» لبناء مركز تجاري في إسطنبول، وجاء أول رد فعل من رئيس الوزراء التركي، رجب طيب أردوغان، بقوله: «ليس من حق أحد أن يعمل على تصعيد التوتر في تركيا، بحجة قطع بعض الأشجار».
بداية الحكاية
سُمي ميدان «تقسيم» بهذا الاسم نسبة لطبيعة المنطقة التي وجد فيها حيث تتجمع خطوط المياه الرئيسية من شمال إسطنبول فتجري من ناحية «بلجراد» وتتفرع إلى أجزاء أخرى في العاصمة التركية، وتأسست هذه المنطقة على يد السلطان محمود الأول واكتمل تدشينها في عهد السلطان محمود الثاني عام 1839.
وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، حسبما جاء في ورقة بحثية نشرت تحت إشراف الاتحاد الأوروبي في 2010، تحول ميدان «تقسيم» إلى ساحة خضراء أشبه باستاد رياضي، بينما استخدمت المناطق والمباني المتواجدة بالميدان في فتح ورش عمل و«كازينوهات».
وحظي ميدان «تقسيم»، الذي تعتبر مساحته قريبة من ميدان التحرير في مصر، بشهرة واسعة في أواخر العشرينيات من القرن الماضي، حيث كانت البداية الحقيقية لنشأته وبعدها أصبح بقعة سياحية يرتادها زائرو تركيا، خاصة أنه يقع في قلب إسطنبول، كما أنه نقطة رئيسية في انطلاق حافلات الركاب بالإضافة لرحلات المترو، وهنا يحتل المترو المركز الثاني من حيث النشأة ويسبقه أول مترو انطلق في بريطانيا.
ويتميز «تقسيم» بنكهة ثقافية وسياحية فتضم أروقته دار الأوبرا إضافة إلى مركز «أتاتورك» الثقافي، كما يسع المحال التجارية والمقاهي والمطاعم، فضلاً عن كونه ساحة لإقامة المناسبات والاحتفالات العامة، كما أن له سحراً خاصاً في بقعته الخضراء التي تلوِّن أرجاء ساحاته من حيث الأشجار الكثيفة.
«تقسيم».. ميدان الاحتجاجات
شهد ميدان «تقسيم» العديد من الصراعات التي حملت أسماء تدل على مدى نتائجها الفادحة ما بين «مذبحة» أو «الأحد الدامي»، وحصدت «المذبحة» التي جرت في 1969، أرواح العشرات من المنتمين للتيار اليساري الذين خرجوا في مواجهات مع القوى اليمنية، ولم تتبين الدوافع الحقيقية وراء تلك المصادمات.
وكان لـ«عيد العمال» نصيب في الصعود إلى مسرح الأحداث الدامية التي شهدها الميدان في واقعة وصفت خلالها صحيفة «توداي زمان» التركية «تقسيم» بـ«ميدان رمزي مهم»، حيث خرج جموع العمال الأتراك للاحتفال بعيدهم في أول مايو من عام 1977، لكن سرعان ما انقلب الاحتفال إلى مأتم كبير حصد أرواح 33 شخصا تم إطلاق النار عليهم من أحد المباني المطلة على الميدان، دون أن تشير الصحيفة للمتسبب الحقيقي في الأحداث، ووقتها تدخلت قوات الأمن آنذاك بسياراتها المدرعة لوقف نزيف الدماء.
وتسبب ذلك الحادث الدامي في وقف الاحتفال بـ«عيد العمال» مدة 3 عقود إلى أن قررت الحكومة التركية الاحتفال به مرة أخرى عام 2009، وأصبح ميدان «تقسيم» يخضع لتدابير أمنية صارمة حتى يكون مقرا للاحتفالات السلمية.
وفي العام الجاري وقعت مصادمات بين قوات الأمن ومحتجين أتراك في «عيد العمال»، وذلك بعدما حظرت السلطات مسيرات عيد العمال التقليدية في الميدان، وهو ما دفع بالمتظاهرين للاعتراض رغبة منهم في عدم إلغاء أي احتفالات تقام في قلب إسطنبول بـ«تقسيم».
كما دخل الشغب الرياضي ساحة «تقسيم» حيث طُعن، عام 2000، اثنين من مشجعي ليدز يونايتيد الإنجليزي خلال مصادمات عنيفة وقعت بينهم وبين مشجعي جلطة سراي التركي قبل يوم من مباراة نصف النهائي بين الفريقين في البطولة الأوروبية.
أشجار «تقسيم» تشعل الميدان
لم يكد ينتهي شهر مايو من عام 2013، حتى أطلقت الشرطة التركية الغاز المسيل للدموع ومدافع المياه على محتجين احتلوا متنزها في وسط إسطنبول مما أدى إلى إصابة العشرات في أحدث أعمال التضييق الأمني العنيف على المظاهرات المعارضة للحكومة.
وبدأ الاحتجاج في حديقة «جيزي بارك» بعدما قطعت شركة مقاولات أشجارًا استعدادًا للبدء في مشروعات تنموية من بين هدفها بناء مركز تجاري، وهو ما دفع إلى اعتراض العديد من الأتراك، وخرج «أردوغان» في خطاب أكد خلاله استمرار تنفيذ حكومته لذلك المشروع.
كما وصف «أردوغان» استخدام الشرطة التركية للغاز المسيل للدموع في تفريق المتظاهرين من أجل حديقة ميدان «تقسيم» بـ«الخطأ».
الحكومة التركية وقصة اقتلاع الأشجار
تسعى الحكومة التركية لإعادة تهيئة عمرانية في وسط إسطنبول من خلال إزالة حديقة صغيرة تضم 600 شجرة في «تقسيم»، بحيث تزال الحديقة الرئيسية في الميدان ليقام محلها مبنى على شكل ثكنة عسكرية قديمة على الطراز العثماني تضم مركزا ثقافيا وربما أيضا مركزا تجاريا.
ويهدف المشروع الذي تنفذه بلدية إسطنبول ويقف وراءه حزب العدالة والتنمية الحاكم لتركيا، منذ 2002، إلى جعل ساحة «تقسيم» منطقة مشاة مع وقف حركة السيارات في وسط المدينة التي يقطنها أكثر من 15 مليون نسمة.
ومنذ نوفمبر 2012 تم حفر أنفاق لعبور السيارات وملوثاتها، حسب تعبير «بلدية إسطنبول»، بالإضافة إلى تجميل الساحة وتحسين المنطقة المحيطة بها، والتي تعد أهم مقصد للسياح في إسطنبول.
ويتأرجح المشروع بين مؤيد ومعارض، فهو ليس محل إجماع المهندسين والمعماريين وأنصار البيئة، الذين يرون فيه مثالا عن إعادة التهيئة العمرانية «العشوائية» والمصممة في المقام الأول للمستثمرين العقاريين دون أي اهتمام بالبيئة.
ورغم الاحتجاجات على هذا المشروع إلا أن «أردوغان» شدد على المضي في تنفيذه، رغم صدور قرار من محكمة إدارية في إسطنبول بتعليقه.