أن تكون عازفا للجاز فى شيكاغو فى خمسينيات القرن الماضى وسط كل الأسماء اللامعة التى كانت موجودة وقتها فهذا أمر يحتاج إلى موهبة حقيقية، وأن تصنع من نفسك أسطورة غامضة يحاول الكثيرون فك طلاسمها، يحتاج الأمر إلى خيال جامح وتمرد، خاصة لو كنت أمريكياً، واخترت اسماً فرعونياً لك، وأعلنت أنك مكلف بتوصيل رسالة من الفضاء، وهناك من يبحث عن سيرتك فى مصر.
فى 22 مايو عام 1914 ولد «هيرمان بلونت» لأسرة أمريكية من أصول أفريقية بولاية آلاباما، إحدى ولايات الجنوب الأمريكية، وكانت الأسرة فى تعداد العبيد لأجيال قبل أن يقضى الدستور الأمريكى على الرق بعد الحرب الأهلية. كان «بلونت» متفوقاً فى دراسته وحصل على منحة دراسية ولكنه تركها بعد العام الأول مقرراً دراسة الموسيقى، وأصبح واحداً من أساطير موسيقى الجاز، ولكن أسطورته لم تتوقف عند جودة موسيقاه ولا اختلاف كلمات أغانيه عن السائد وإنما امتدت إلى أسلوب حياته وتفكيره وأسطورة غامضة حاك خيوطها بيده.
فى خمسينيات القرن الماضى، أعلن «بلونت» تغيير اسمه رسمياً إلى «سونى رع»، والذى استمد منه اسمه الفنى «صن رع»، لأنه يرى أن الاسم الذى أطلقته عليه أسرته جاء من عالم العبيد. كما روى أن فضائيين اختطفوه فى عام 1927 وأجروا له «غسيل مخ» وطالبوه بنشر رسالة السلام، وأنه ينشرها من خلال موسيقاه. وشكلت كل من الحضارة المصرية وقصة الفضائيين جزءاً كبيراً من مسيرة «رع» الموسيقية ظهرت بشكل قوى فى زياراته الثلاث لمصر أعوام 1971 و1983 و1984.
كان «رع» غامضاً فى تصريحاته ولقاءاته الصحفية تاركا بعد وفاته، فى 30 مايو 1993، العديد من الألغاز التى دفعت أكاديميين وفنانين للبحث فى أعماله وحياته. الفنان الألمانى «توم بوجارت» يعمل فى القاهرة الآن على بحث اجتماعى حول فلسفة «صن رع» وموسيقاه واهتمامه بالحضارة الفرعونية والقومية الأفريقية. يقول «بوجارت» إن «رع» كان مهووساً بالحضارة المصرية القديمة لسببين: الأول أنه بعد تركه للمدرسة كان وصوله الوحيد إلى الكتب من خلال مكتبة تابعة لبعض الماسونيين وكانت مليئة بكتب عن مصر القديمة وقواها الخاصة، وعندما انتقل إلى شيكاجو، التى كانت فى ذلك الوقت فى مركز حركة معمارية تتبنى أسلوب العمارة الفرعونية، زاد هذا التأثر حتى قرر أن يسمى نفسه على اسم الإله الفرعونى «رع» الذى يرمز له بالشمس. وكان «رع» يرى أن الحضارة الفرعونية هى حضارة أفريقية سرقها اليونانيون واستخدموها فى الفلسفة وأراد أن يطالب بحقه وحق الأفارقة فى استعادة ما سرق.
زار «رع» مصر ثلاث مرات مع فرقته لعزف الموسيقى كانت الأولى بدعوة من «هارتموت جيركين»، فنان ألمانى كان يعمل فى ذلك الوقت فى معهد «جوتة» و«صلاح رجب»، اللذين كونا معا أول فريق جاز كبير فى القاهرة. حضر «رع» بفريقه إلى القاهرة ولم يكن معهم أموال، ودفعت السفارة الأمريكية بالقاهرة نفقات إقامتهم، لكن آلات الفريق الموسيقية حجزت فى الجمارك. كان «رجب» يحمل رتبة رائد ويقود فرق القوات المسلحة الموسيقية، وفر لهم آلات موسيقية، وكانت أولى حفلاتهم فى فيلا «جيركين» فى الزمالك. ثم أقاموا حفلين فى الأهرامات. وفقدت غالبية الموسيقى التى سجلت فى تلك الزيارة.
توفى «صن رع» ولكن فريقه الموسيقى المكون من 25 عازفا لا يزال موجوداً حتى الآن يعزفون موسيقاه ويؤكدون على أسطورته.