إذا كنت تصدق كل ما تقرأ؛ فلا تقرأ من أقوال أنيس منصور الكاتب الفيلسوف.. فالمفترض أن الكاتب يكتب ليستفز فيك مَلَكة النقد والتفكير.. فهو يملك فكرة وأنت تملك أفكارًا.. هو فى «مود الكتابة» فلا تكن فى «مود التلقى» فقط.. فإذا كنت فى مود التلقى ستكتفى بما تقرأ.. وهذه درجة أخرى ونوعية أخرى من القراء.. ولا أتصور أن الكاتب يستهدف هذه الفئة.. فالكاتب ليس مدرس حصة أو منهج.. لا يريدك أن تحفظ عنه.. هو فقط يشجعك على البحث فى الموضوع من خلال إثارة القضية!.
وحين لجأت إلى فكرة الأسئلة، كنت أستفز القارئ وأتعمد أن يكون من نوعيات مختلفة.. وفوجئت بأحد الملحقين الثقافيين بسفارة غربية يعزمنى على فنجان قهوة، ويتحدث بالعربية بلهجة شامية، فسألته: لماذا أنا مع أننى لا أكتب عنكم وأخص الشأن المصرى بكل ما أكتبه؟.. أصر على استضافتى، فذهبت إليه متوجسًا، إنها أول مرة أدخل سفارة أجنبية، ولم أفعل حتى قال إنه تربطه بفلان وعلان علاقات إنسانية، لا علاقة لها بالشغل!.
وذهبت إليه فى الموعد لأجده مستعدًا.. قال إنه يتابعنى يوميًا، فاندهشت لأننى لا أكتب فى قضايا أوروبية، قال إنه يعرف مصر من خلال هذه الكتابات، وهم معنيون بتحليل هذه الكتابات وغيرها للتعرف على المجتمع المصرى وقضاياه.. وتحدث عن طريقتى فى الكتابة ووصفها بأنها «فانتاستيك»، فزاد حماسى للكلام معه.. ولم يسألنى عن أى شىء خارج الكتابة، فشجعنى على النقاش معه.. وفاجأنى أنه يحفظ بعض العناوين التى كتبتها، ولم يكن أمامه ورقة أو موبايل على المكتب، فتعلمت أن الكاتب لابد أن يتهيأ للكتابة كما لو كانت الدنيا كلها تراه!.
وبالفعل، اهتممت بكل التفاصيل، بالفكرة والطريقة.. متى أضع نقطة، ومتى أضع فاصلة، ومتى أغلق الفقرة.. وقد كنت ومازلتُ أقسم المقال عدة فقرات متساوية بالمسطرة، وربما موحدة فى عدد الكلمات، حتى لا أرهق القارئ، حتى أصل إلى الفقرة الأخيرة فتكون أصغر الفقرات وأقل فى عدد الكلمات، وتكون خلاصة المقال، كأنها فقرة تذكرة!.
وكان صاحبنا قد لاحظ ذلك، فهو لا يقرأ فقط، ولكنه يبحث الفكرة والطريقة معًا.. ويتفق ويختلف على كيفه، فهو لا يتلقى درسًا ولم يتعلم مثلنا.. نحن فى بلادنا نصدق كل ما نقرأ، ونغلق عقولنا دون ذلك.. لكنه ثقافة مختلفة، وإن كان قد تعلم العربية فى لبنان بلهجة شامية، حتى ظننت أن دولته عينت لبنانيًا فى وظيفة ملحق ثقافى، فاكتشفت أننى كنت مخطئًا.. فقد درس العربية لأنه سيتعامل مع عرب، ولابد أن يتابعها كأحد أبنائها!.
أما الأستاذ الكبير سمير عطالله، فقد أسعدنى عندما قال عنى: إنه يكتب فى الشأن المحلى.. وكل شأن مصرى هو شأن عربى بالضرورة، ولكن ليس كل شأن عربى هو شأنًا مصريًا.. ولا يكتب هذا الكلام إلا كاتب كبير قام بتحليل ودراسة من يكتب عنه، ولو كان بشكل عابر على سبيل التكريم والتقدير، وكأنه يعرفنى كما يعرف نفسه!.