x

يوسف زيدان دولة الشيعة الإسماعيلية بمصر يوسف زيدان الأربعاء 10-08-2011 08:05



الإمام الإسماعيلى «أغا خان» المدفون بأسوان منذ سنة 1957، فى ذلك المقام البديع الذى ظل حتى وقت قريب مزاراً سياحياً، لماذا جاء ليُدفن فى مصر؟ وما دلالة هذا اللقب: أغاخان؟ وكيف سميت أول دولة شيعية، فى مصر، بالدولة الفاطمية؟.. سوف نسعى فيما يلى للإجابة عن الأسئلة، مع الالتزام بقدر المستطاع بتبسيط الموضوع، وبالابتعاد عن الأسلوب، الذى يشكو كثيرٌ من القراء والأصدقاء من صعوبته، خصوصاً أننى وعدت صديقى «على منتصر» أن أُتِمَّ مقالات هذه السباعية، بأيسر لفظ وأقرب معنى. وعلى ذلك أقول:


كان ياما كان، شيخٌ جليل يتفق على مكانته الدينية والروحية معظم المسلمين، اسمه الإمام «جعفر الصادق»، الذى هو من (أسباط) النبى. الأسباط هم أبناء البنت، وأبناء الابن هم الأحفاد. وقد اعتاد المسلمون تسمية أسباط النبى من السيدة «فاطمة» وزوجها الإمام «على بن أبى طالب» بالأشراف، وبآل البيت. وكان جعفر الصادق هو إمام الجيل الخامس من أشراف بيت النبوة، لأنه جعفر الصادق (5) ابن محمد الباقر (4) ابن على زين العابدين (3) ابن الإمام الحسين (2) ابن الإمام على بن أبى طالب (1).. وقد أعلن جعفر الصادق أن الإمام من بعده، سوف يكون ابنه الأكبر «إسماعيل» ولكن هذا الابن، فيما يقال، كان يشرب الخمر ولا يلتزم بالسمات التى يستمسك بها أئمة آل البيت. وقد توفى فى حياة أبيه، فصارت هناك مشكلة فى (توريث) الإمامة، لأن الشيعة فى ذلك الوقت كانوا يتأولون الآية القرآنية «وجعلها كلمةً باقيةً فى عَقِبه لعلهم يرجعون» بحيث يصير المفهوم منها، أن الإمامة وراثية فى الأعقاب، أى فى الابن من بعد أبيه. وهم يعتقدون أيضاً، أن الإمام معصومٌ من الخطأ، وبالتالى فإذا نصَّ على إمامة خليفته لا يجوز الرجوع عن هذا النص.. ولكن (إسماعيل)، المنصوص عليه، مات، ولم يكن أبوه راضياً عنه حتى إنه احتفل بموته، وفرح بوفاته، وعرض جثته على شهود، كتبوا محضراً بالواقعة، وأرسلوه إلى الخليفة العباسى الذى فرح بدوره بوفاة «إسماعيل»، على اعتبار أن أئمة الشيعة كانوا يسعون إلى السلطة السياسية، وكان أبناء عمومتهم (العباسيون) يبالغون فى اضطهادهم، مثلما كان يفعل (الأمويون) من قبلهم.


طيب، ما العمل وقد مات الإمام المنصوص عليه، بصرف النظر عن مناسبته أصلاً للإمامة؟ الذى حدث أن والده «جعفر الصادق» نصَّ على إمامة ابنه الأصغر (موسى الكاظم)، فارتضى بذلك جماعة من الشيعة، هم الذين سوف يُعرفون لاحقاً باسم «الإثنى عشرية» ولم يقبل ذلك جماعةٌ أخرى، قالت إن الأحق بالإمامة بعد إسماعيل (المتوفى) هو ابنه: محمد بن إسماعيل.. والذى يعد عندهم الإمام السابع، ولذلك عُرفوا باسم (السبعية) وباسم (الإسماعيلية)، وقد زعم جماعة منهم، أن موت «إسماعيل» كان مجرد مسرحية أراد بها «الإمام جعفر الصادق» أن يخفى ولده عن عيون الخلافة العباسية، ويحفظه من بطشهم.. وزعم جماعة آخرون منهم، أنهم شاهدوا الإمام «إسماعيل» بعد مسرحية موته، يعيش فى البصرة وفى بعض نواحى فارس (= إيران).


ونظراً للظروف الصعبة التى كان يمر بها التشيع فى تلك الفترة، وفى فترات أخرى كثيرة، فقد اتخذت الدعوة الإسماعيلية طابع السرية، وقام الدعاة فى هذا الوقت المسمى (طور الدعوة السرية) بالكثير من الجهود التى سعت لإقامة دولة بديلة، على رأسها الإمام المستور (= المختفى).. وكان من هؤلاء الدعاة السريين، الجماعة التى تعرف باسم (القرامطة)، وهى التى تحدثنا عنها فى مقالة الأربعاء الماضى، التى لم يهتم بها كثيرون لانشغال الناس فى بَرِّ مصر بمحاكمة الرئيس السابق (العلنية) فى اليوم ذاته.


المهم، أن الجماعة الإسماعيلية التى انشقت عن بقية الشيعة، ظلت تحاول إقامة دولة لها بالمعنى السياسى، مدعومة بجهود (الدعاة) حتى استطاعت تأسيس دولة «جنينية» فى ساحل إفريقية (=تونس) وما لبثت أن صارت دولة قوية فى مصر، سُميت الدولة الفاطمية.. لماذا الفاطمية؟


كان الأئمة الحاكمون فى تونس، منذ ابتداء دولتهم على يد «عبيد الله المهدى» يسمون أنفسهم الفاطميين، كأنهم بذلك يذكِّرون المسلمين بأصلهم الشريف، ويؤكِّدون انتسابهم إلى السيدة فاطمة التى تحظى بتقدير أهل الإسلام على اختلافهم. ولكن أعداء الفاطميين، كانوا يسمونهم (العبيديين) نسبة إلى عُبيدالله المهدى، ويؤكِّدون أنهم ليسوا من آل البيت أصلاً، ويشكِّكون فى نسب عبيدالله.. ومن هنا نفهم خلفيات الواقعة المشهورة التى جرت بمصر سنة 363 هجرية، حين جاء «المعز لدين الله» ليحكم النواحى المصرية، فذهب أعيان المصريين، ومعهم نقيب الأشراف بمصر، وسألوا «المعز» عن نسبه وحسبه، فنثر عليهم دنانير ذهبية وقال: هذا نسبى! ثم سحب نصف سيفه من الغمد وهو يقول: وهذا حسبى. وهى الطريقة ذاتها التى يستعملها اليوم المجلس العسكرى الذى يدير مصر، واستعملها من قبل الجميع «معاوية بن أبى سفيان» فيما يُعرف بشعرة معاوية: لو كان بينى وبين الناس شعرة ما تركتها تنقطع، فإذا شدُّوا أرخيت، وإن أرخوا شددتُ.. (هذه ليست دعوة لمواصلة الاعتصام بميدان التحرير حتى تتحقق مطالب ثورة يناير، فقد تهتكت الاعتصامات وأنهكت البلاد).


المهم، أن «المعز لدين الله» ومن بعده ابنه «العزيز بالله» كانا من فضلاء الرجال، وسارا فى مصر بسيرة حسنة، وحفظا البلاد من محاولات القرامطة الاستيلاء على الحكم.. لماذا تسعى الجماعات الدينية دوماً إلى امتلاك كرسى الحكم والسيطرة على السلطة السياسية الدنيوية، مع أن الحديث الشريف يقول: الدنيا جيفة وطلابها كلاب؟ وما معنى الدعوة التى أطلقها «الصوفية» للتظاهر يوم الجمعة، لإثبات أن عددهم اليوم بمصر هو (خمسة عشر مليوناً!) بينما التصوف الذى أعرفه، لا يعرف اللعب السياسى؟


ما علينا، نعود إلى الزمن الفاطمى (= الشيعى الإسماعيلى) الذى اضطرب فى أواخر القرن الرابع الهجرى، وبدايات القرن الخامس، مع التفانين العجيبة والحكمة الممزوجة بالهوس والجنان الرسمى (الجنون الصريح) الذى عرفناه فى فترة حكم «الحاكم بأمر الله» الذى كاد فى نهاياته يودى بالبلاد والعباد فى موارد التهلكة، لولا تداركت الأمر أخت الحاكم بأمر الله (سِتّ الملك) وقامت بعملية إنقاذ على طريقة توم كروز فى أفلامه «مهمة مستحيلة» لكنها نجحت، وأرست الأمور بيد ابن أخيها الذى كان قد انتزعته من أبيه (الحاكم بأمر الله) وهو طفل صغير، وما لبثت أن جعلته حاكماً لمصر بعد اختفاء والده سنة 411 هجرية، وأعطته اسم (الظاهر لإعزاز دين الله) وكان عمره آنذاك ستة عشر عاماً.


وفى أواخر زمن «الحاكم» ظهرت بمصر بدع كثيرة ومعتقدات عجيبة، منها الجماعة التى سوف تُعرف لاحقاً باسم (الحشاشين) والجماعة التى تُعرف اليوم باسم (الدروز) وكلاهما مصرى المنشأ، وكلاهما متشدِّد.. ولسوف نتوقف عندهما فى المقالتين القادمتين.


وقد استمرت الدولة الشيعية الإسماعيلية (الفاطمية) فى حكم مصر من سنة 358 هجرية حتى أسقطها سنة 567 هـ صلاح الدين الأيوبى، الذى تنمَّس على الخلافة الفاطمية وصار وزيراً لهم، ثم انقلب عليهم وعلى «نور الدين محمود» وأسس الدولة المعروفة فى تاريخ مصر والشام بالدولة الأيوبية، التى ابتدأها بجريمة ضد الإنسانية حين عزل الرجال (الفاطميين) عن النساء (الفاطميات) ومنع تزاوجهم مع بعضهم، أو مع الآخرين، حتى انقرضوا بالوفاة ولم يبق منهم أحد. وبالطبع، فالمقررات الدراسية عندنا لا تذكر هذا الأمر إطلاقاً، وإنما تحتفى بصلاح الدين الأيوبى لأنه حَرَّر القدس من أيدى الصليبيين سنة 583 هـ هجرية، ولا تقول أن أخاه (العادل) عاد وسلَّمها لهم سنة 628 هجرية.


■ ■ ■


وبعد انطواء صفحة الزمن الشيعى الإسماعيلى (الفاطمى) من تاريخ مصر، بقيت ببلادنا آثار كثيرة تدل عليه، وبقيت منه فى التراث العربى/ الإسلامى عموماً آثار أخرى. ومن أشهر ما نعرفه اليوم من بقايا ذاك الزمن الجامعُ الأزهر الذى ما لبث أن صار منبراً لمذهب السنة، مع أنه كان فى الأصل منبراً للدعوة الشيعية الإسماعيلية. ومن ذلك أيضاً، ما نقوم به اليوم من احتفالات دينية واحتفاء بفانوس رمضان (الذى لا يعرفه إلا المصريون) وحفاوة كبيرة بآل البيت المدفونين بمصر، وعلى رأسهم الإمام الحسين الذى يشكك كثير من المؤرخين فى أنه مدفون أصلاً بمصر، لكن هذه الشكوك لا تعنى أى شىء بالنسبة للاعتقاد العام السائد بمصر.


ومن الآثار التى بقيت من ذاك الزمان، فى التراث العربى/ الإسلامى، عموماً، بل فى التراث الإنسانى؛ الموسوعة البديعة التى تعرف بعنوان (رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا) وهى كتاب ضخم يقع فى أربعة مجلدات، ربما نعود إليه فى «سباعية» خاصة.


لكن السلسلة الإسماعيلية استمرت فى أصلاب (النـزارية) الذين صاروا هم «الأئمة» واحتفظوا فى إيران وقلب آسيا بمكانة روحية خاصة، وبالاسم ذاته «الإسماعيلية» ثم توارثوا هذه الزعامة الروحية جيلاً بعد جيل، حتى اشتهر أمرهم من جديد (فى القرن التاسع عشر الميلادى) مع إمامهم المولود بإيران سنة 1219 هجرية، واسمه: حسن على بن خليل على، ولقبه: أغا خان الأول.. وهو لقب ملكى تشريفى، منحه له شاه إيران «فتح على القاجارى» الذى تزوج أغا خان، أخته الأميرة «سرر جهان» ولكن الخلاف سرعان ما دبَّ فى البلاد بسبب ازدياد الزعامة الدينية لأغا خان، والتفاف الأتباع من حوله، فحظر عليه الشاه الإيرانى العمل بالسياسة، خوفاً على العرش، ولكن الصدامات حدثت بين أتباع هذا وذاك، وانتهى الأمر بأغا خان الأول إلى النـزوح إلى الهند. وفى أيامه هاج النصيرية (العلويون) فى سوريا، على الإسماعيلية الموجودين هناك، وأخرجوهم من ديارهم. وهاجم السُّنة قلاع الإسماعيلية فى لبنان، وأعدموا كبارهم شنقاً. فتقلص الوجود الإسماعيلى فى البلاد العربية وصار مختصاً بالهند.


ثم تولى الزعامة الروحية «أغا خان الثانى» الذى كثر أتباعه وصاروا أغنياء بسبب العمل فى التجارة، واستطاعوا مساعدة الإسماعيلية فى سوريا بالتوسط من أجلهم لدى السلطان العثمانى الذى سمح للإسماعيلية بالسكنى فى سوريا، وأعفاهم من الجندية.. وفى كراتشى الباكستانية سنة 1877 ولد أغا خان الثالث، واسمه الأصلى: سلطان محمد شاه على الحسينى. وفى زمانه انتعشت الجماعة وازدادت ثراءً والتفافاً حول إمامهم الذى صار يلعب دوراً سياسياً، ويجوب العالم، ويتزوج بملكة جمال فرنسا (تزوج أربع مرات) وقد احتفل أتباعه عام 1935 ببلوغه السنة الخمسين من إمامته لهم بأن تبرعوا له بوزنه ذهباً (اليوبيل الذهبى) وبعدها بأحد عشر عاماً (سنة 1946) تبرعوا له بمقدار وزنه من الماس (اليوبيل الماسى) وفى سنة 1954 وزنوه بالبلاتين وأهدوا الوزن إليه.. ولا نعرف ما الذى كانوا سيفعلونه، لو أتم إمامهم من عمره مائة عام؟


توفى سلطان محمد شاه (أغا خان الثالث) سنة 1957 بسويسرا، ونقل جثمانه إلى أسوان ليدفن فيه، حسب وصيته التى يقول الطيبون من المصريين إنه اختارها مدفناً لرفاته، لأنه كان قد جاء إليها للاستشفاء، ونصحه المعالجون بأن يدفن نفسه فى الرمال، فبرأ وأحب المكان وبنى فيه مقبرته.. بينما الرأى عندى، أن مصر كانت تمثل عنده الزمن الذهبى للجماعة الإسماعيلية، التى عاشت أزهى عصورها فى زمن أجداده المعروفين باسم (الفاطميين) الذين فتحوا بلاد النوبة فصارت فى القرن الرابع الهجرى، فقط، أرضاً إسلامية بعدما استعصت طويلاً على الفاتحين بسبب تمسك النوبيين بخصوصيتهم وديانتهم التى كانت المسيحية.. العجيب أن أهل النوبة صاروا من بعد ذلك، كلهم، مسلمين! حتى إنه لا يوجد مسيحى واحد نوبى، سواء من جماعة الفجكى والمتوكى (النوبة المصريين) أو من جماعة المحسن (نوبة السودان) وكأن المسيحية لم تكن يوماً ديانة لجميع أجدادهم، لفترة امتدت لمئات السنين.


وتولَّى من بعد أغا خان الثالث، ابنه (كريم) الذى صار لقبه «أغا خان الرابع» وهو من أشهر الشخصيات فى العالم منذ توليه (الإمامة الإسماعيلية) ومن أغناهم وأكثرهم نشاطاً وأناقة وحباً للحياة الراقية.. وأعتقد من جانبى، وقد أكون مخطئاً، أن الفترة القادمة من حياة مصر سوف تشهد مزيداً من الإقبال (الإسماعيلى) الذى بدأت شواهده تلوح فى آخر جمعة اعتصام فى ميدان التحرير (قبل محاكمة مبارك) حيث نُصبت فى الميدان عدة منصات للثوار المصريين، كان من بينها منصَّة للشيعة.


الإسلام هو الحل، الديمقراطية هى الحلَّ، المجلس العسكرى هو الحلّ، الحرية هى الحلّ، الانتخابات هى الحلّ، السلفية هى الحلّ، الكنيسة هى الحلّ، الأزهر هو الحلّ، العلمانية هى الحلّ، الليبرالية هى الحلّ، المطالب الفئوية هى الحلّ، الأرانب والملوخية هى الحلّ.. اللهم ارحمنى من هذه الحلول جميعها، حتى نحدِّد أولاً ما هى المشكلة التى نبحث لها عن حلّ.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية