عندما تفتت الاتحاد السوفيتى، الذى كان مكونًا من خمس عشرة جمهورية، فإن ولاياته التى عاد إليها الاستقلال وجدت نفسها عائمة فى الفراغ. فى ذلك الوقت حاولت روسيا احتواء هذه الجمهوريات لضمان استمرار الارتباط بموسكو، أما خصوم روسيا فقد انفتحت شهيتهم للاستيلاء على هذه البلاد العطشى للحرية والحكم الديمقراطى. لم تكتفِ أمريكا وأوروبا الغربية بإغواء دول شرق أوروبا، مثل بولندا وتشيكوسلوفاكيا والمجر، من أجل إحداث قطيعة بينها وبين الإرث السوفيتى، وإنما وضعت يدها داخل العش الروسى نفسه، وشجعت الثورات البرتقالية داخل جمهوريات السوفييت السابقة، مثل أوكرانيا وجورجيا ومؤخرًا بيلاروسيا. وبالنسبة للشعب الأرمينى، الذى لم يعرف الراحة طوال تاريخه، فإنه انتقل من اليد العثمانية إلى اليد السوفيتية، ثم وجد نفسه وحيدًا يملك دولة يُقال إنها مستقلة، بينما لا تستطيع أن تحيا دون الاعتماد على دعم خارجى. أقامت أرمينيا اتفاقية دفاع مشترك مع روسيا لتضمن من خلالها الحماية وصيانة ما اقتطعته من أراضى أذربيجان فى الحرب التى جرت بين الجارتين القوقازيتين مع مطلع التسعينيات. كانت الروابط بين أرمينيا وروسيا أقوى بكثير مما هى بين الأخيرة وأذربيجان بالرغم من كونهما جزءين من الدولة السوفيتية التى كانت. ما الذى حدث إذن حتى لا يسارع الروس لنجدة أرمينيا فى المواجهة الأخيرة مع أذربيجان، والتى انتهت بانتصار كبير وتحرير قطاعات واسعة من الأرض الأذرية الواقعة تحت سيطرة الأرمن؟ المشكلة بدأت مع حكم رئيس الوزراء، نيكول باشينيان، عام 2018، ومعروف أنه لا يُكِنّ للروس كبير ود، ولهذا فقد فتح خطوطًا مع الغرب، بما أنبأ باقترابه من نموذج الثورات البرتقالية التى ناصبت موسكو العداء، ثم قام بعزل القيادات المعروفة بولائها لروسيا وأَحَلَّ مكانهم الرافضين للنموذج الروسى. مشكلة هذا الرجل أنه أراد أن يبكى مع الراعى ويأكل مع الذئب، وقد طال به العشم حتى تصور أن بوتين سيتدخل عسكريًا لصالحه! كان بوتين يتابع الحرب الأخيرة بين مَن يعتبرهم «صبيانه» وهو يمسك بالخيوط ويحركها بمهارة. لم يشأ الرئيس الروسى أن ينصر الأرمن لأنه علم أن هذا النصر سيصب فى صالح الغرب، ويمثلهم «باشينيان» فى كرسى رئاسة الوزراء، كما لم يشأ أيضًا أن تكون الهزيمة الأرمينية شاملة ومنتهية بتحرير أذربيجان لكل الأرض، وإنما أمر بوقف القتال فورًا قبل نصر باكو المؤزَّر بلحظات، وذلك لأن النصر الكاسح من شأنه أن يُعتبر فوزًا تركيًا خالصًا.
لقد خرجت روسيا الرابح الأول من الحرب الأرمينية الأذربيجانية حول إقليم ناجورنو كاراباخ، وكان الرابح الثانى هو تركيا، التى حققت مكاسب استراتيجية تحتاج إلى بيان مفصل فى حديث آخر.