x

«سناء ورانيا».. «أختان» جمعتهما «القمامة» والفيروس حطم حلم «السكن الآمن»

السبت 14-11-2020 18:52 | كتب: سحر المليجي, ولاء نبيل |
الشقيقتان سناء ورانيا أثناء جمع القمامة الشقيقتان سناء ورانيا أثناء جمع القمامة تصوير : إسلام فاروق

في السادسة صباحا تبدأ «أم حسن» ذات ال38 ربيعا، رحلتها اليومية، من «بطن البقرة»، إلى شوارع «الجيارة» بمنطقة مصر القديمة، تجلس على عربتها الكارو، هي وابنها طارق، يجرهما حمار، ظهر عليه علامات الفقر والإجهاد والجوع، فلم يختلف حاله عن باقي أسرته، التي يعيش بينهم لا كأنه حيوان، بل فرد، فهو مصدر دخلهم وسبب سعادتهم.

رحلة عمل يومية تقوم بها أم حسن، للبحث عن مصدر رزقها وأولادها، بعد أن أصاب زوجها المرض، وتحديدا منذ أربع أعوام، حتى باتت مسؤولة عن جمع القمامة من 3 شوارع وبرج، -بعد الاتفاق مع المعلم حنفي-، كبير المنطقة على ذلك.

أم حسن، التي نسيت اسمها «رانيا»، ولم يعد مطروحا إلا في الاوراق الرسمية، فقدت معها جمالها وصفاء بشرتها السمراء، تمتلك من الدنيا 4 ابناء، وعربة كارو وحمار، وحجرتين، استأجرتهما لتعيش فيهما، بالإضافة إلى مخزن صغير«، لتخزين ثرواتها من القمامة يوميا، من»بلاستيك«، و»علب الكانز«.

حرفة اكتسبتها من زوجها، غيرعابئة بما تخفيه بداخلها من مخاطر، لا تتمنى أكثر من ان تستمر، فالعمل يغنيها عن الاستدانة، والطرد من سكنها وملاذها الآمن، وهو ما عاشته طوال شهور بسبب جائحة كورونا.

تتوجه ام حسن إلى المنازل يوميا، لتقوم بجمع اكياس القمامة، وتوصيلها إلى «مقلب الجيارة» لتبدأ مرحلة فرزها، حيث تقوم بفتح الاكياس، كيسا تلو الأخر، وتفتش فيما بداخله، لا يهمها سوى زجاجات البلاستيك الفارغة، وعلب الكانز، والورق، ولا مانع من بواقي الادوية، والطعام، أو زجاجات البرفان، فقد تضطرها الحاجة إلى أكل العيش الناشف، أو إطعامه «لحمارها» إذا تيسر حالها.

«كمامات»، و«مناديل ورقية مستعملة»، وبقايا جراحات ملوثة بالدماء، وزجاج مكسور، وغيرها من أشياء تخلص منها أصحابها،يجعل «ام حسن» عرضة للاصابة والمرض، كل لحظة، لا يختلف فيما بينها الاصابة بفيروس كورونا أو أي مرض اخر، ف لفرز القمامة مخاطر.

العمل في أجواء كورونا، كان أكثر قسوة وألما، بسبب الإنقطاع عن العمل طوال شهرين، ابتداءا من شهر مارس وحتى نهاية أبريل، فلم تجد خلالها قوت يومها،واضطرت إلى الإختباء من مالك الحجرتين، لعدم تمكنها من دفع الايجار، لتتحدى الإجراءات الصحية والقانونية الملزمة بالحظر والجلوس في المنزل، والخروج إلى اكوام القمامة بحثا عن «الجنيه».

تقول أم حسن«عشنا ايام سودة، كنا بنسمع عن أهل الخير ممن سيوزعون الوجبات على المحتاجين، لكن محدش جه ولا حد جاب لينا حاجة، وكنت عايشه على بطاقة التموين اللى بصرف منها زجاجتين زيت وكيس رز ومكرونة، وكانوا بيقضونا بالعافية، وباقى الشهر كله كنا عايشين على الشكك».

«مرة واحدة اشتريت فيها زجاجة كحول ب15 جنيه»، هكذا تتحدث أم حسن عن فيروس كورونا، والإجراءات الطبية المطلوبة، فتقول أنها لم ترتدى كمامة يوما، ولن ترتديها، وأنها تعمل منذ الخامسة صباحا وحتى التاسعة مساءا لشراء «العيش»، وليس رفاهية الكمامة والكحول، مؤكدة انها تحتاج للعمل شهرا كاملا لتشترى قميص جديد لأحد اولادها، ومع كورونا بات الحصول على ملابس جديدة حلما بعيد المنال، فالأهم حاليا هو سد الديون المتراكمة التي بلغت 4000 جنيه.

وتؤكد أم حسن ان منزلها لم يشهد أي تطهير، فتقول «»كانوا بيعقموا الشوارع بس، ومحدش جه لنا البيت، وعلشان كده كنا بنسبها على الله وبنكتفى بغسل إيدينا«.
أيام كورونا لا تزال مستمرة، وحلمها الوحيد حاليا أن يستمر عملها، ولا تضطر الحكومة لفرض الحظر مرة أخرى، فيومها الذي يتراوح مكسبها فيه من 50 إلى 100 جنيه- أن تمكنت من ملئ «جونية البلاستيك»، لا تستطيع أن تستغنى عنه، كما أنها لا تستطيع تحقيق أي إدخار يمكنها من التوقف عن العمل ليوم واحد، خاصة أنها فشلت في الحصول على المعاش الاستثنائي والذى أعلنت عنه الحكومة، للعمالة غير المنتظمة، حيث تقدمت بالأوراق المطلوبة، لكن كان الرد انها «غير مستحقة»، دون إبداء أسباب.

كانت رانيا أفضل حالا من سناء، فالأخت الأكبر، انفصلت عن زوجها منذ 4 أعوام، طردها فيها من منزلها لتعانى مع أولادها الثلاثة التشرد والفقر، ولأنها لم تحصل على تعليم، لم تجد سوى العمل بفرز القمامة من «اكوام القمامة»، حيث تعمل حرة، دون التقيد بالعمل عند أي «معلم»، بعد كل ما تعرضت له من مضايقات.

تعيس سناء في خارطة أبوالسعود، وهى منطقة شعبية بالجيارة، حيث تسكن في حجرة واحدة تنقسم إلى جزئين، احدهما يضم سريرها الكبير، تنام عليه هي وابنتها، والاخرى تضم سرير صغير، ينام عليه ولديها، وبجوارها «جونية البلاستيك»، والتى تعد مصدر دخلها الوحيد.

لون باهت، حد من تشوهه، ستارة بيضاء، زاهية اللون، استخدمتها سناء، بديلا عن الأبواب، فكانت سبيلها الوحيد لفصل الحمام عن المطبخ، ذلك المطبخ الذي امتلأ ب«شكائر، من الزجاجات الفارغة، فيما حملت زقزقة العصافير المحبوسة بقفص صغير معلق فوق البوتاجاز، صياحا بدلا من التغريد، تستغيث فيها من النيران.

ليس ذهبا أو فضة هي ممتلكات سناء، فثروتها مكونة من جونية بلاستيك والعلب الفارغة، تخبأها في منزلها، وتحميها كما تحمى ابنائها، فعمل سناء لا يجلب لها دخلا يوميا، بل اسبوعيا، حيث تقوم بجمع كل نفيس، تمهيدا لبيعه للتجار الكبار بالكيلو، وعلى قدر تعبها في الاسبوع يكن دخلها، فكيلو الكانز ب10 جنيه، والبلاستيك بجنيهان والزجاج بجنيه ونصف والكارتون بخمسون قرش.

سناء «ام زياد»، التي تعانى من حرق في يدها، تخرج للمقلب في تمام السادسة صباحاً وتعود بعد12 ساعة من العمل المتواصل والمستمر،تلعب حولها ابنتها الوحيدة مريم، والتى تم معايرتها بعمل امها في اول ايام الدراسة، فعادت تبكي لأمها من كلام زميلتها، التي قالت لها «انها تأكل من الزبالة».
عمل شريف يغنينى أنا وأولادى من التسول أو السرقة، حتى وإن كان عمل «مهين»، وأتمنى أن يدوم، بهذه الكلمات بدأت سناء حديثها معنا، دون أن تتلاقي أعيينا، فقد انحنى جسدها على كيس قمامة أسود، قد فرغته من محتواه، باحثة عما بداخله، يجاورها «كلب ضال»، قد سبقها إلى أحد الاكياس الثمينة المعبئة بخيرات الله من «الطعام الفاسد».

تقول سناء، كورونا بالنسبة لنا محنة، فهى ليست مرض مخيف، بل هي مرض قاتل، فبسبب إجراءاته كثفت الجهات الأمنية الرقابة على أكوام القمامة، ومنعتنا من الخروج، فكنت أقضي أياما طويلة في منزلى مع أولادى، لا نجد شيئا نأكله، أو عملا نقوم به، حتى التليفزيون حرمنا من مشاهدته، فأنا لا امتلك ثمنه، فكنت اقضي ساعات الحظر متأملة في اولادى، انتظر الصباح كى اجري إلى «مقلب القمامة» عسي أن أجد شيئا يصلح للبيع لكن للأسف حتى أكوام القمامة فقدت خيراتها خلال تلك الشهور العصيبة.

شهور متواصلة ظلت فيها «سناء» حبيسة منزلها المتواضع، لم تشتر خلالها كمامة واحدة، أو نقطة كحول، وكانت اجراءاتها الوقائية الوحيدة، هي غسل يديها وتغير ملابسها بمجرد الدخول إلى البيت.

سناء التي لا تعرف من كورونا، إلا انها سببا في تغيير شكل «الزبالة»، وزيادة عدد المخلفات من الكمامة وزجاجات الكحول الفارغة، تقول انها لا ترتدى الكمامة، ولا الجوانتى، فكل ما يهمها لقمة العيش، فالإصابة بكورونا، لن تختلف عن اصابتها بفتح يديها أو قدمها من الزجاج المكسور، لافتة إلى انها في حالة اصابتها تقوم بغسل الجرح وربطه فقط.

سناء تؤكد ان يدها هي مصدر دخلها الوحيد، وهى مضطره للعمل، حتى وان كانت مصابة بالحرق، فيديها التي اصيبت خلال الايام القليلة الماضية، لم تمنعها من العمل، بل جعلتها اكثر حرصا على زيادة العمل، فقد حرمتها «كورونا» السكن الآمن، وطالبها صاحب السكن بإخلاء البيت، بعد تراكم الايجار 3 أشهر خلال فترة الحظر.

وتؤكد انها ستسعى للعمل خلال الايام المقبلة، حتى وإن لم تنم سوى ساعة واحدة فقط، لإدخار بعد المال بسبب بدأ الموجة الثانية لكورونا.
لا تحمل «سناء» ذات ال39 عاماً هم رحلتها الشاقة خلال يوم العمل الطويل، لكنها تحمل هم اليوم الذي ترقد فيه، أو لا تستطيع الخروج فيه للعمل وتقول «ما ينفعش أقعد يوم، كفاية علينا الديون اللى تراكمت في فترة كرونا.. 3 شهور ماكناش بنشوف الشارع.. كنا بنام من غير عشا.. وبستنى والدتى تصرف التموين كل أول شهر، علشان أخد منها كيس عدس على كيس مكرونه، يبقى وجبة للعيال، ولولا بطاقة أمى ما فيش رغيف عيش هيدخل البيت».

احتمالية الإصابة بالمرض أمر وارد للجميع، لكن «سناء» لا تطرق سوى باب الصيدلية المجاورة لمسكنها في حالة ظهور أي أعراض على أحد من أسرتها:«بطلت أروح مستشفيات كل حاجة بأشتريها على حسابى، واليوم بيضيع عندهم من غير ما نشوف أي دكتور».

كان آخرهم –حسبما تروى- حين أُصيب أبنها الأكبر في قدمه، وتوجهت بعدها لمستشفى قصر العينى، وظل ينزف طوال 7 ساعات، ورغم شرائها القطن والشاش والمراهم والمشرط ومستلزمات آخرى كلفتها 400 جنيه، إلا أن الحالة لم تُعرض على طبيب، ولهذا قررت عدم الذهاب لأى مسشفى أياً كانت الأعراض.

تحلم «سناء» بأن تلتحق بالعمل في مقر آمن، كعاملة نظافة، يكون لها تأمين صحى واجتماعى يضمن لها حياة كريمة، وأن توفر توك توك لأبنها الأكبر، يعمل عليه، ويعينها على اكمال مسيرة ابنتها «مريم» التعليمية، وإعادة أخوتها للمدرسة لمن يسمح لهم السن بذلك.

تحلق سناء بأحلامها، كما يحلق عصفور ابنها زياد، في تلك الحجرة الصغيرة، تحلم بأن عملها المستقبلي كعاملة نظافة قد يمكنها من تأجير شقة ذات حمام نظيف، وتليفزيون صغير ونافذة تسمح لأشعة الشمس بالوصول إلى «مرقدها»، وان تحصل ابنتها على تعليم جيد، حتى لا تعانى الجهل والفقر الذي تعيشه هي الآن.

ورغم صعوبة حياة سناء ورانيا، إلا ان المشهد الأكثر ايلاما، هو «دنيا ومريم»، ابنتيهما، فالطفلتين، اللتين تلعبان حول أمهمها، دون اثر لكمامة أو «مطهر»، قررتا ان يلعبن دور «الام وابنتها»، حيث افترشن الارض، يحملن في يديهن بقايا علبة تونة فارغة، وكيس طعام ضم قشورا للمانجو والبرتقال، حيث تمثل احدهما دور الام وتقوم احدهما بتفريغ الطعام في الاناء وتقليبه ،كى تطعم الاخري، والتى تقوم بدور الابنة، ضاحكات مستمتعات بتلك اللعبة.

ومن جانبه علق شحاته المقدس، نقيب الزبالين:«يعمل في قطاع جمع وفرز القمامة 3 مليون عامل، قطاع كبير منهم عاملات النظافة، وهن موظفات في الدولة، أما عاملات الفرز تمثلن 20%، والمحور الرئيسى في القمامة بشكل عام يأتى في جمعها من المنازل، ويقوم بتلك المهمة الرجال».

ويعد عمل السيدات في الفرز هو الجانب الأهم من الناحية الاقتصادية، حيث تقوم بتصنيف ما تم جمعه، وفى الغالب تكون تلك السيدات إما زوجة جامع القمامة، تتولى فرزها في منزلهم، أو عاملة باليومية، تأتى لمناطق الجمع من الأحياء الششعبية والعشوائية، موضحا ان يومية السيدة العاملة في الفرز تتراوح بين 80 إلى 100 جنيه، تعمل خلالهم من السابعة صباحاً، حتى الرابعة عصراً، بينهم ساعة راحة.

ويؤكد شحاته، ان جميع العاملون بهذا القطاع، عماله غير مؤمن عليها، ولا تمتك سوى قوت يومهاـ تعول به اسرتها، وغالبا ما تتحكم فيها ظروف اسرتها وتضطر للغياب عن العمل، ولذلك تتقاضى أجرها من صاحب الفرز كل أسبوع ليضمن استمرارها في العمل على الأقل لمدة 7 ايام، ولايضطر لتأجير غيرها :«وعلشان كده نقدر نقول أنهم عماله منتظمة لمدة أسبوع، ونأمل في تفعيل قانون حماية تلك الطبقة من الناحية الصحية والاجتماعية، والذى ناقشه الرئيس مع وزيرة البيئة.

وعن دور النقابة في دعم عاملات جمع وفرز القمامة، قال:«لدينا في كل محافظة فرع للنقابة، نحصل على 80 جنيه سنوياً من كل عضو، ويصل عددهم ل93 ألف عضو، تساعده النقابة فقط في حال تعرضة لأى كارثة أو ظرف صحى، لكن دون القدرة على توفير معاش أو منحة شهرية».

ووصف قطاع عاملى القمامة بواحدا من أهم قطاعات الدولة، التي تعمل تحت كل الظروف، حيث يتم جمع 16 ألف طن مخلفات صلبة قابلة للفرز يوميا من القاهرة الكبرى، و6 الاف طن مواد عضوية لأطعام الخنازير، والفى طن مواد غير قابلة للتدوير، ومنها الكمامات، ويتم دفنها في 3 مدافن رسمية، بشكل صحى..

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية