كان جالساً فى استرخاء فى أحد المنتجعات الحديثة حينما حمل إليه نادل الفندق رسالة مغلقة. شعر بالدهشة لأنه لا يعرف أحدا هنا، وحينما تساءل عن مصدرها أشار النادل - فى خبث - إلى سيدة بدينة ترتدى نظارة سوداء على سبيل الغموض. لم يكن أمامه سوى أن يبتلع دهشته ويقرأ الرسالة:
«حبيبى أحمد. أخيرا وجدتك، وأخيرا تقرأ رسالتى الورقية بعد آلاف الرسائل الروحية التى أرسلتها إليك طيلة أعوام الفراق المريرة، ولم يساورنى ريب أنها تلمس روحك السامية النبيلة.
منى تكتب لك الآن يا أحمد! منى التى أحبتك قبل أن تعرف أن اسمها منى وأن اسمك أحمد، وأنك جارى فى ذات المنزل. كنا طفلين يتعلمان المشى معا فيتعثران ويسقط أحدهما على الآخر. هل تصدق أننا الآن على بعد خطوات؟ مجرد خطوات يمكننا أن نقطعها الآن فى لحظة!
أى ذكريات تعبر ذهنى الآن: لحظات اللهو المشتركة والألعاب الطفوليه والمغامرات الوهمية! أم الشكوى من صعوبة هجاء كلمة (ظريف) فى الصف الأول الابتدائى؟!.. ذهابنا سويا إلى مدرسة الإمبابى بالهندام الأنيق والعودة بثياب ممزقة متسخة، أم أذكر شجرة النبق العجوز - شجرتنا يا أحمد - وكيف حفرت اسمينا عليها بالبرجل؟!
أى فيضان من الذكريات يعبر خاطرى الآن!
أم تلك اللحظة التى تضرجت وجنتى خجلا، إذ تلامست أيدينا عفوا، وكيف أدركت أننى لم أعد الطفلة منى بل صرت منى العاشقة! أم تلك الغيرة الحمقاء التى عصفت بى إذ رأيتك ترمق سوسن بإعجاب؟! وكيف خاصمتك وكيف عفوت عنك قبل أن تعتذر لى. ثم طبعا تلك المشكلة الكبيرة مع جارتنا أم بلبل! تذكر طبعا حكاية نبيل وحمدى، وكيف ضربتهما علقة ساخنة وأثبت لى رجولتك وأنت مجرد طالب فى المدرسة الثانوية.
كل شىء كان يشير إلى المستقبل الجميل الذى ينتظرنا. ولم يكن هناك ما يدل على النذير الغامض المشؤوم حين قرر أبى أن يصطحب أسرته إلى إحدى الدول الشقيقة لكى يصنع مستقبلا أفضل لأولاده دون أن يفطن أنه يمزق قلب ابنته تمزيقا.
أى شىء بوسع فتاة السابعة عشرة غير البكاء؟ وهل يجدى البكاء؟
أذكر الأيام الصعبة التى سبقت رحيلى كأنها لحظة سوداء طويلة.
مر العام مثل قطيع هائل من الخراف السوداء يركض فى أرجاء روحى. وعدت إلى الوطن لأجد الخبر المشؤوم فى انتظارى. لقد رحلت أسرتك هى الأخرى إلى حيث لا أدرى.
.............
والقصة معادة ومعروفة. عشرات العرسان الذين أفتش فيهم عن عيب أبرر به رفضى المستمر. قلق أمى والشك يتشكل فى عيون أبى حتى تأتى تلك اللحظة التى يعلن فيها أبى عن اعتزامه تزويجى بالعريس القادم، وهيامى فى الطرقات أبحث عن وجهك بين آلاف آلاف الوجوه وأمسح الدمع المنهمر كيلا يحجب عنى وجهك الحبيب.
وارتديت الفستان الأبيض الذى ما خلت أننى أرتديه لسواك.. تزوجت من سيد جمعة، بطل مصر السابق فى الملاكمة، هو طيب القلب رغم تهوره أحيانا. ملامحه طفولية رغم جسد الثور الذى يحمله، ورغم أنى فشلت فى حبه فلا أنكر أنه تصدى لبهاء ودسوقى، وحتى أم بلبل يئست من أن تغيره تجاهى.
ومرت الأيام حتى رأيتك بوجهك النبيل الحزين فى ذلك الفندق الذى حجز فيه زوجى لمصالحتى بعد تلك العلقة الساخنة التى نلتها منه حينما سمعنى أردد اسمك وأنا نائمة. كانت ورطة كبيرة صممت بعدها على الطلاق لكن مصطفى رفض بإصرار.
المهم – وكيلا أطيل عليك - شعرت بقلبى يكاد يتوقف حين شاهدتك فى الفندق. لم تتغير كثيرا. صحيح أنك ازددت نحافة وصرت (أصلع) وفيما عدا ذلك فكل شىء على ما يرام.
والآن صار ممكنا يا حبيبى أن نتزوج، ذهبت إلى زوجى على الفور وصارحته بالحكاية كلها. ربما لم أكن - إذ رأيتك - متمالكة تماما قواى العقلية. كنت شبه مسحورة. لم أتحمل ذلك الألم المروع الذى ارتسم على وجهك حين شاهدتنى برفقة زوجى. كان لسان حالك يقول (ها قد التقينا بعد طول فراق، لكن ما الفائدة؟).
لا أعرف ماذا يدور برأس زوجى الآن؟ لكنى واثقة أنه سيطلقنى. إنه ليس من ذلك الطراز الذى يمسك بعصمة امرأة تعلنه بحب رجل آخر، إنه ثور كما أخبرتك ويتمتع بجميع مزايا وعيوب الثيران، سوف يطلقنى بعد علقة أو علقتين، لكنه سوف يطلقنى.
والآن يا حبيبى: ها هى منى حبيبتك عادت إليك بعد طول فراق.
دع الرسالة الآن وتعال. وكفى ما ضاع من عمرينا. المخلصة منى».
.............
انتهى من قراءة الخطاب ورأسه يدور. أولا هو لا يُدعى أحمد، اسمه مخيمر. صحيح أنه ليس تسماً رومانسياً ولكنه فخور به. ثم إنه لم يكن يوما فى مدرسة الإمبابى ولم ير هذه السيدة من قبل. وواضح أنها هستيرية وتثير المشاكل فى كل مكان، والمؤكد أن أحمد هذا سعيد الحظ إذ أفلت من براثنها. ثم ما هذا الحشد من الشخصيات التى لا يعرف عنها أى شىء؟ سوسن ونبيل وحمدى وبهاء ودسوقى، وسيد جمعة بطل الملاكمة الذى أرادت الطلاق منه، ومصطفى الذى يرفض بكل طريقة إتمام الطلاق، وأم بلبل التى لا عمل لها تقريبا سوى الكيد لها. ما علاقته بكل هؤلاء؟
أما مسألة الألم الفظيع الذى ارتسم على ملامحه فبسبب قلقه من فاتورة الفندق اللعينة!!
المهم الآن هو زوجها الثور بطل الملاكمة الذى أخبرته الحمقاء بأنها تحبه! هل سيمهله الوقت الكافى لإقناعه بأنه مخيمر وليس أحمد! يجب أن يفر الآن من هذا الفندق اللعين بغير انتظار وبغير وقار.
واندفع هاربا لكنه وجد نفسه فى أحضان رجل ضخم الجثة شرس الملامح، يحتشد الشر على وجهه، قال له فى اختصار:
- مستعجل ليه يا روميو؟!
كانت العلقة مؤلمة بالطبع. المرأة الهستيرية تصرخ بلا انقطاع: « حرام عليك، موتنى أنا وسيب أحمد». أما هو فكان يردد بلا انقطاع:
- «يا ناس صدقونى، أنا مش أحمد.. أنا اسمى مخيمر».