«لا آمل في شيء، لا أخشى شيئا، أنا حر».. جملة قصيرة من بين اقتباسات عديدة لخص من خلالها الروائي اليوناني نيكوس كازانتزاكيس نظرته للحياة، ودفاعه عن السلام في مواجهة العنف، وبحثه عن الحرية، التي طالما عبر عنها في مؤلفاته التي أثرى بها الأدب الإنساني.
كازانتزاكيس أحد أبرز أدباء اليونان، ولد عام 1883، في جزيرة كريت التي كانت تحت وصاية الحكم العثماني آنذاك، قضى طفولته بين أب قليل الحديث ذي شخصية مهيبة يدعى مايكل كازانتزاكيس، وأم تدعى ماريا كازانتزاكيس وكان يصفها بالقديسة لانتمائها لطبقة الفلاحين التي يراها معمرة للأرض، ورحل عن العالم في 26 أكتوبر 1957.
بداية مع الفلسفة
«كذبت؟ ضُربت؟» بهذين السؤالين استطاع والده زرع القيم الأساسية التي سيواجه من خلالها الحياة، وتتمثل في الوصول للنجاح بكرامة دون أن يعطي الفرصة لأحدهم بإهانته أو قهره، ليتبنى بعد ذلك قضية الحرية.
رغم ظروف الاحتلال التي عاشها صاحب «زوربا اليوناني» خلال فترة طفولته بما تنطوي عليه من الصراعات النفسية، إلا أنه نشأ في بيئة تهتم بالعلم بالتحاقه بمدرسة الرهبان الفرنسيين الذين اشتهروا بالفكر الفلسفي في أواخر تسعينيات القرن التاسع عشر، ليجمع فكره بين الفلسفة اليونانية والفرنسية، الأمر الذي مثل قاعدة فكرية نتج عنها عشرات المؤلفات مختومة بطابعه الخاص الذي ربما لن يتكرر.
بعد إنهاء دراسته بمدرسة الرهبان درس القانون بجامعة أثينا ثم ذهب للبحث وراء العلم الذي وقع في حبه وعاش شغوفًا به في فرنسا لدراسة الفلسفة، وبعد مزيد من الاطّلاع وترجمة الكتب الفلسفية أصبح متأثرًا بشكل واضح بالفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه الذي علمه كيف يصيغ عالمه الخاص.
في رحاب سيناء
رأى «كازانتزاكيس» أن حياة الإنسان هي امتداد بين ظلمتين الأولى ظلمة الرحم والثانية ظلمة القبر، لذا قضى حياته يتجول في العالم لاهثًا وراء الحقيقة، باحثًا عن المعرفة والخلاص.
كان لزيارته سيناء ثم فلسطين بُعد روحاني انعكس على ذاته، فلم يكن السبب وراء سفره لتلك الأراضي، حيث كان مسار العائلة المقدسة هو البحث عن المعرفة المجردة فقط، بل كان يرى رحلته من منظور تأملي، سيقوده للخلاص الشخصي الذي آمن أنه لن يستطيع الصدق في كتاباته إلا بتحقيقه، فكانت رحلته أشبه ما يكون بالحج.
في كتابه «رحلة إلى مصر الوادي وسيناء» وثق نيكوس كازانتزاكيس رحلته في أرض الفيروز قائلًا: «منذ سنوات وسيناء، ذلك الجبل الذي وطأه الله، تلمع في ذاكرتي مثل قمة لا سبيل إلى الوصول إليها.. ذلك الدير الذي بُني فوق ذلك المرج المحترق الذي لم يفن ولم يهلك، هنا يتجسد الهدف الذي كنت أحن إلى إنجازه طوال السنوات التي كنت أسير خلالها بغير هدى في المدن الكبيرة».
يقول: «بعد رحلة استمرت ثلاثة أيام في هذه الصحراء العابسة، شعرت أن الضمير الإنساني يتشكل هنا وهنا تنتصر الفضيلة على الصحراء، وأنا أتجول بين واحات النخيل التابعة للدير أصبحت إنسانًا شرقيًا فأنا وسط الجبال والردة في الكتاب المقدس»، هكذا شعر الأديب العالمي حين زار سيناء.
بعد انتهاء «كازانتزاكيس» هو ورفيق رحلته «كالموهوس» من التجول بين الجبال والأديرة وتلك الجلسات التي جمعتهما بالرهبان، يقول: «وأنا أتجول عبر الصحراء عند طرف سيناء شعرت قلبي ينبض بشكل متناغم، إن الخروج من أرض العبودية قد بدأ، إننا نعبر الصحراء».
أنسنة الدين
في روايته «الإغواء الأخير للمسيح» استطاع نيكوس كازانتزاكيس تقديم المسيح كنموذج للإنسانية في أسمى معانيها، إذ تحدث عنه في صورة الإنسان المقاوم الذي لا يخشى الألم أو الغواية أو الموت.
«لم أكن قد شعرت بدم المسيح يسقط قطرة قطرة في قلبي بمثل كل ذاك القدر من الحلاوة والألم.. لكي يرتقي إلى الصليب، قمة التضحية، قمة اللا مادية، ولو لم يكن بداخله هذا العنصر الإنساني الدافئ لما تمكن من أن يغدو نموذجًا لحياتنا»، هكذا وصف «كازانتزاكيس» المسيح في مقدمة روايته.
«لطالما مثل جوهر المسيح المزدوج توق الإنسان، التوق شديد الإنسانية، الخارق في إنسانيته ليبلغ الله أو بمعنى أدق ليعود إلى الله، لغزًا مبهمًا عويصًا بالنسبة لي، هذا الحنين إلى الله وهو في وقت واحد غامض وحقيقي تمامًا».. بتلك الكلمات اختتم روايته الشهيرة.
نوبل تفقد كازانتزاكيس
أديب وشاعر وفيلسوف وسياسي ومترجم، تنقلت أعماله الأدبية بين القارات وتُرجمت كتاباته لأربعين لغة، ولم يحصل على جائزة نوبل! ثمة صوت واحد فقط جعل نيكوس كازانتزاكيس يخسر الجائزة التي رُشح لها أمام ألبير كامو عام 1956، الذي رأى أن منافسه «كان يستحقها أكثر بمائة مرة».
في كتاب «الرسائل» الذي ألفته أرملة «كازانتزاكيس» إليني ساميو بعد وفاته لتجمع الرسائل المتبادلة بينه وبين أصدقائه، جاء نص رثاء ألبير كامو كالآتي «لقد كنت أكن الكثير من الإعجاب، وإذا أجزت لي نوعًا من المودة لآثار زوجك، ولا أنسى يومًا بعينه، كنت أسفت فيه على نيل جائزة كان كازانتزاكيس يستحقها أكثر بمائة مرة، فإذا بي أتلقى منه أكثر البرقيات كرمًا، وبغيابه يختفي واحد من أواخر الفنانين الكبار، وأنا من أولئك الذين يستشعرون وسيواصلون استشعار الفراغ الذي خلفه».
في مقال نُشر بموقع «naftemporiki»، هناك بعض الاتهامات التي صاحبت كازانتزاكيس في مسيرته نحو الحرية والخلاص، فقد كان يُنظر إليه من قبل الدولة اليونانية على أنه ملحد، شيوعي، يفسد عقول الشباب.
النضال ضد الاحتلال العثماني
التمرد على الحرب التي فتح عينيه على الحياة ليجدها معلنة من الدولة العثمانية على مسقط رأسه، كان رفيقه في مشواره الأدبي، فاستطاع بروايته «الحرية أو الموت» تناول تاريخ نضال الشعب اليوناني في جزيرة كريت من أجل التحرر من سلاطين الأتراك.
لم يكتفِ نيكوس كازانتزاكيس بأن يعكس بكتاباته مدى تأثره بالحرب ورغبته المستميتة في نيل الحرية، بل كان سياسيًا فاعلًا وتولى عددا من المناصب، فقد عين وزيرا دون حقيبة عام 1945، لكنه لم يستمر في المنصب أكثر من عام لإيمانه بأن الخوض في السياسة أمر لا ينتهي.
وشارك في حرب البلقان التي اتحدت خلالها بلغاريا واليونان والجبل الأسود وصربيا بعد الاستقلال، ضد الدولة العثمانية لتوسيع سيطرتهم وضم القوميات العرقية المماثلة التي تبقت في قبضتها، وبالفعل نجح اتحاد البلقان في مهمته.
الكنيسة ضده حتى مثواه الأخير
اعتقد مؤلف «الإخوة الأعداء» في فترة ما أن الأيديولوجية الشيوعية المتمثلة في الثورة الروسية يمكنها تغيير العالم للأفضل، ما أدى إلى تصنيفه متمردا، رغم أنه قدم نفسه فيما بعد على أنه يعتنق أيديولوجية إنسانية عالمية، فضلا عن موقف الكنيسة المناهض لكتاباته، وظل اللقب المزعج للحكومة اليونانية ملتصقًا به حتى رحل، وبقى جثمانه عالقًا بالحياة لمدة عشرة أيام، وواجهت أرملته الكثير من التحديات والشتائم من أجل دفنه.
القصة بدأت بعدما توفى نيكوس في ألمانيا ونُقل إلى مطار ألفسينا العسكري، وطلبت أرملته من كنيسة اليونان وضع جسده في رحلة حج شعبية، لكن رئيس أساقفة أثينا رفض، وفشلت محاولات الاحتفاظ بجسده في معبد بأثينا.
وانتهى الأمر بنقل جثمانه إلى مدينة هيراكليون بعد قداس في كنيسة أجيوس ميناس، وكتب على قبره: «لا آمل في شيء، لا أخشى شيئا، أنا حر».