هذه طفلــة. لنَقـــُلْ اسمُها «فرح». تتكسّر كراتُ دمها الحمراء. لن تعيشَ لو لم تجد كيـسَ دم يُضَخُّ إلى جسدها الشاحب. وهذه أمها. ليكن اسمُها «زهرة». شابةٌ من عمرنا. لا يزورُها النومُ إلا غفواتٍ خاطفةً حين يهدُّ الجسمَ التعبُ، تختلسها أثناء النهار، بينما «فرحُ» تركض أمامها وتلهو.
أما فى الليل، فالنومُ يتأدبُ ويهجرُ مضجعَ الأمِّ، كى تؤدى المهمةَ التى كتبتها السماءُ عليها سنواتٍ طوالا، كأنها إحدى بطلات الإغريق نذرتهن الآلهةُ لعذاب أبدىّ.
لابد أن تذهب «زهرة» إلى فراش «فرح» عشر مرات فى الليل لتتأكدَ أن الصغيرةَ مازالت على قيد الحياة. خلال النهار، تظلُّ «زهرة» تفكر فى أولئك النبلاء الخمسة الذين يتبرعون لفرح بدمهم كلَّ ثلاثة أسابيع. أتراهم جاهزين اليوم؟
أتراهم يستمرون على نبلهم، فيمدون خيطَ الحياة لصغيرتها الجميلة؟ ترى هل سيقاومُ جسدُ فرح النحيلُ تلك الأنيميا ويصمد حتى تصل العشرين من عمرها، فتعبر، نسبيًّا، جسرَ الخطر؟
ألفُ «تُرى» تصطخبُ فى رأس «زهرة»، إلى أن تصطحب «فرحَ» إلى أحد فروع «رسالة»، فتجد كيسَ الدم فى انتظارها. يُضخُّ فى الوريد الضامر فينتعشُ على الفور الجسدُ الواهنُ، وتهدأ وساوسُ الأمّ. لن يعاودها القلق قبل أسابيع ثلاثة، من الراحة والاطمئنان الجزئى.
لا أعرف طفلةً اسمُها «فرح»، ولا أمًّا اسمُها «زهرة». لكننى عرفتُ بالأمس عشرات الـ«فرح» تتعلّق قلوبُ أمهاتهن بخيط رهيف من الأمل، تجدلُه وتقوّيه جمعيةٌ خيريةٌ مصريةٌ محترمة اسمها «رسالة».
احتفاءً بأطفال مصر المرضى، فى اليوم العالمىّ لأنيميا البحر المتوسط (8 مايو من كل عام)، وقفتُ على منصّة قاعة «الحكمة» بساقية الصاوى، فشعرتُ بأننى محاطةٌ بثلاثة أعمدة من الجَمال. «رسالة»، عمودُ الجمال الإنسانىّ والروحىّ على أرض مصرَ الطيبة.
صنعه مصريون متطوعون آمنوا أن بوسعهم حفر جداولَ وقنواتٍ من الحب والنبالة فى الأرض الجدباء، دون انتظار معونة من حكومة أخفقت فى حبّ شعبها ولم تعمل يومًا على تخفيف أوجاعه، بل تزيدها إن استطاعت! ثم عمودُ الجمال التنويرىّ الثقافىّ، تمثّله «ساقية الصاوى».
ذلك الصرح الضخم الذى نجح فى أن يكون وزارةَ ثقافة أهلية راقية ونشطة. الأنشطةُ التى تقدمها الساقيةُ فى أسبوع تفوق ما تقدمه فى شهور أنشطُ وزارة ثقافة فى كبريات الدول. قصيدةٌ شعريةٌ رفيعةٌ أن تتحوّلَ أرضٌ خربةٌ، أسفل كوبرى مايو، يلقى فيها المارةُ نفاياتهم، إلى بؤرة إشعاع ثقافىّ مدهشة تبثُّ نورها فى كلّ صوب. أما عمود الجمال الثالث فهو «الأطفال»، وهل أنقَى جمالاً من وجوههم، وأصفى ضوءًا من بسمات عيونهم!
تحدّث الأطباءُ المتطوعون عن حتمية إنقاذ أولئك الأطفال المأزومين الذين يحتاجون إلى دم مصرىّ لا تقدر أن تصنعه أعقدُ معامل الكيمياء. متوفر، وحسب، فى شرايين أهل الخير. يُفيد التبرعُ به المتبرِّعَ ويجدد خلاياه، وينقذُ المتبرَّعَ له من الموت. وتحدثتُ عن جمال المصريين الذى لا ينضب. ورقص الأطفالُ مطمئنين أن أرواحَهم البريئةَ معلّقةٌ فى أيدى مصريين شرفاء، لن يخذلوا حقَّ أطفالهم فى الحياة.
Fatma_naoot@hotmail.com