قبل عشرين عامًا من اليوم، استشهد أيقونة انتفاضة الأقصى، الطفل الشهيد محمد الدرة، الذي قنصته رصاصات جنود الاحتلال الإسرائيلي، في الـ30 من سبتمبر عام 2000، أثناء احتماءه وراء ظهر أبيه الأعزل، في مشهد اهتزت له ضمائر الملايين حول العالم.
لدى أحد الحواجز الأمنية للاحتلال الصهيوني، على مقربة من غزة، وتحديدًا عند مفترق متساريم، سجل مراسل القناة الثانية الفرنسية الدائم في غزة، طلال أبورحمة، مقطعًا مصورًا لمشهد قنص قوات الاحتلال الإسرائيلي، للطفل الشهيد، محمد الدرة، ذي الـ12 ربيعًا، التقط أبورحمة المشهد مصادفة أثناء تغطيته أحداث الانتفاضة الثانية، لكنه لم يكن يدري أنه سينتقل إلى العالم كوثيقة تحمل دلائل بشأن جرائم الاحتلال بحق أطفال فلسطين، وتفتح أيضًا باب الجدال على مصراعيه بين الاحتلال الذي ادعى أن الطفل لقى مصرعه برصاصات فلسطينية، وأن المقطع الذي وثقته القناة الثانية الفرنسية لقنصه «مفبرك»، وبين عائلة الدرة التي تأمل اليوم وعقب مرور عشرين عامًا أن ينفتح الباب أمام تحقيق دولي عادل في مقتل نجلهم.
الطلقات الأربع النافذة إلى قلب الطفل ذو الـ12 ربيعًا، والتي لم يعيقها صرخات والده الذي توسل لجنود الاحتلال: «لا.. لاتطلقوا النار» نفذ صداها أيضًا عبر المقطع الذي تم التقاطه مصادفة إلى قلوب الملايين حول العالم فأسمعهم عن جرائم الإحتلال الإسرائيلي بحق أطفال فلسطين؛ وجعلت من دماء الدرة وارتعاد يديه وراء ظهر أبيه الأعزل من السلاح وثيقة تاريخية شكلت وعي أقرانه من الأطفال العرب؛ فخرجوا من مدارسهم في تظاهرات تلقائية منددة بجرائم قوات الاحتلال الإسرائيلي آنذاك، وكأن دماء ذاك الطفل دفعت أقرانه من الأطفال للشعور بمسؤولية إنسانية حياله وحيال القضية الفلسطينية.
ومع الذكرى العشرين، يسرد جمال محمد أحمد الدرة، والد الطفل الشهيد لـ«المصري اليوم»، كيف كان وقع قنص طفله بين يديه، وما آثار ذاك المشهد الجلل على العالم بأثره، وما رده على ادعاءات الجانب الإسرائيلي بخصوص الدرة، وكيف يرى الوضع الراهن..
صف لنا كيف كان وقع قنص طفلك بين يديك؟
أذكر مشهد قنص محمد وكأنه حدث اليوم، فوقع استشهاد نجلي لم يكن قاسيًا عليّ كوالده أو على أسرته فحسب، إنما شكل قنص طفل ضعيف بأربع رصاصات، رغم اختباءه خلف ذراعي والده الأعزل أثر كبير على وعلى الأمة العربية والإسلامية بل والعالم، وفتحت دماءه ومشهد قتله الموثق عبر مصور لـ«فرانس 2» عينّي العالم على حقيقة الجرائم التي يرتكبها الاحتلال بحق شعبنا رجالًا ونساءًا وأطفالًا؛ شاهد العالم كيف توسلتْ إلى جنود الاحتلال ليتوقفوا عن إطلاق النار نحونا؛ إذ كانت الواقعة بمثابة نموذجًا حي يظهر المئات والآلاف من الجرائم التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني بدم بارد وبشكل يومي.
هدف الاحتلال إلى قتلنا معًا، وحاولت افتداءه قدر إمكاني، حتى أن رصاصات الاحتلال مرت على جسدي، قبل أنت تنفذ إلى ابني، لكن دم الدرة أبى الرحيل إلا وقد شكل وعي الملايين حول العالم فالرصاصة النافذة إلى صدر ابني نفذت أيضًا إلى قلوب الملايين، وكشفت للغرب جرائم الاحتلال الصهيوني الذي ارتكب العديد المجازر في حق شعبنا الفلسطيني ولا يزال يرتكب المجازر في حق أمتنا العربية بشكل مباشر أو غير مباشر، ولا ننسى مجزرة بحر البقر في مصر التي تم تغطيتها بدعم دولي.
ادعت، لجنة تقصي الحقائق، التي شكلها رئيس الأركان السابق للجيش الإسرائيلي، موشيه يعلون، في 2012 أن الفيديو الذي وثق لمقتل الدرة مُفرك، وأن السلطة الفلسطينية هي من قتلته.. فما تعليقك؟
حين يكون الخصم والقاتل هو الحكم، فهذه الادعاءات طبيعية، كيف يعترف الاحتلال الصهيوني بجرائم يرتكبها بشكل يومي، في البداية وضع الإعلام الإسرائيلي قبعات يهودية على رأسي وعلى رأس طفلي ليقولون أمام الإعلام العالمي، أن الفلسطينيين يقتلون مدنيين يهود وحين تكشف أمرهم أمام العالم تنصلوا من مسؤليتهم تجاه جرائمهم، وأدعوا أن المقطع المصور الذي وثق جريمهم مفبرك. إذا كانت هناك نية لتقصي أية حقائق، لاستدعى الاحتلال جهة تحقيق دولية، كما أن المحاكم الفرنسية حسمت الجدل في تورط الجانب الإسرائيلي في دماء الدرة، بعدما ادعى رجل الأعمال اليهودي، ومدير مؤسسة ميديا ريتيجز، فيليب كارسينتي، في العام 2006 أن المقطع المصور لمقتل الدرة الذي وثقه مراسل القناة الثانية الفرنسية في غزة، طلال أبورحمة، وحكم القضاء الفرنسي لصالح القناة في العام 2008. ونأمل أن ينفتح الباب أمام تحقيق دولي عادل.
عقب 20 عامًا من الانتفاضة ومن رحيل الدرة.. هل غاب عن خاطرك؟ وهل غابت الانتفاضة عن خاطر الفلسطينيين؟
لا لم ولن يغيب الدرة عن خاطري فحسب، إنما يظل حيًا في ذاكرتي وذاكرة الآلاف ممن يحاولون التواصل معي عبر مواقع التواصل في ذكرى استشهاده من كل عام، إذ يتواصل معي أجيال ولدت عقب وقوع تلك الجريمة في حقه، وهو ما يؤكد أن دمائه شكلت وعي أجيال عديدة، وأشعرتهم بالمسؤولية حيال القضية الفلسطينية، كما لم تغب الانتفاضة أيضًا عن أذهان الفلسطينيين، ولن تغيب فنحن الفلسطينيون ننتفض كل يوم، مع كل حق يسلب، لكن كواليس تلك الانتفاضات اليومية لا تعرف سبيلها إلى وسائل الإعلام التي باتت لا تلقي بالًا للقضية الفلسطينية.
كيف يبدو وضع أطفال فلسطين تحت الاحتلال؟
بالطبع كل أطفال فلسطين هم الشهيد الدرة، وجميعهم معرضون للمصير ذاته، فهم مستهدفون من قبل الاحتلال، والشواهد على ذلك كثيرة، فمن ينسى الطفلة الرضيعة إيمان حجو، ذات الأربعة أشهر، التي قنصتها رصاصات الاحتلال بين يد أمها أمام منزلهم الواقع في خان يونس، عام 2001، ومن ينسى أيضًا الطفل فارس عودة، ابن مخيم جباليا الذي نسفت نيران الاحتلال رأسه، قبل أن يتمم عامه الخامس، إبان الحرب الأخيرة على قطاع غزة عام 2014، ومن ينسي عائلة دوابشة التي تم حرقهم داخل منزلهم، ومن ينسى الطفل محمد أبوخضير الذي تم تقيده وحرقه أمام أسرته، جنود الاحتلال هم أهل الهلوكست، وهم النازيون الجدد الذين تفننوا في قنص واستهداف عشرات بل ومئات الأطفال بالرصاص كما يستهدفون آلاف الأطفال بالاعتقال حتى يومنا هذا؛
فأطفال فلسطين يقعون بين فكي جرائم الاحتلال والصمت الدولي، والشاهد على ذلك قسم الأسرى الأشبال في سجن «عوفر» الإسرائيلي غربي رام الله، فهذا السجن الذي يخصصه الاحتلال للسجناء الأمنيين مكتظ بأطفالنا. أيضًا في النصف الأول فقط من العام 2019 جرى إصابة 1233 طفلًا فلسطينيًا، غالبيتهم العظمى أصيبوا خلال مشاركتهم في مسيرات العودة وكسر الحصار على طول حدود غزة، إضافة إلى اعتقال 17 آخرين خلال الفترة نفسها.
على خلفية ذكرك لقطاع غزة.. ما تعليقك على الانقسام الفلسطيني الفلسطيني، وهل يسهم في ضياع القضية؟
الانقسام الفلسطيني الفلسطيني أبعد البوصلة عن فلسطين، إذ مررنا بـ 14 عجاف، أضعفت القضية وأبعدتها عن أهدافها، وأدعوا الفصائل المنقسمة كافة للاعتصام، للحفاظ على ما تبقى من القضية، وللقيام بدورهم تجاه دماء الفلسطينيين، لأن وحدتنا وحجة قرارنا هي الخطوة الأولى لاسترداد حقوقنا؛ لكون الانقسام دمر أجيال من الشباب أضحوا بلا وظائف، كما يدمر الانقسام حلم فلسطينيي المهجر بالعودة، وجعل شباب الفلسطينيين الذين يحلمون بوطن موحد لهم يهاجرون على قوارب الموت بحثًا عن فرصة لحياة كريمة بعيدًا عن هذا الانقسام الأسود.
برأيك متى تتحرر الأراضي الفلسطينية المحتلة، وما السبيل لحل عادل للقضية الفلسطينية؟
نحن الشعب الفلسطيني نناضل ونكافح منذ قرن من الزمان حين شرع الاحتلال البريطاني في توطين الصهاينة في بلادنا، ولا سبيل لحل عادل للقضية الفلسطينية، سوى الوحدة والمقاومة، نحن نقاومهم وما زلنا نقاومهم ونؤمن بأن نضالنا هو السبيل الوحيد نحو الحل العادل.