جاء الفيلم الأمريكى «كل شىء ضائع» إخراج «ج. سى شاندور»، الذى عرض خارج المسابقة فى مهرجان «كان» تحفة من تحف السينما والإبداع الفنى، ولمع كالجوهرة النادرة فى المهرجان.
لا أحد يدرى لماذا عرض الفيلم خارج المسابقة وخارج مسابقة «نظرة خاصة»، بل خارج مسابقة الكاميرا الذهبية للفيلم الطويل الأول أو الثانى لمخرجه رغم أنه فيلم شاندور الثانى، ولكنه على أى حال فيلم خاص خارج المسابقات وفوق الجوائز.
هذا هو الفيلم الثانى لمخرجه الأمريكى الذى ولد عام 1973 وتخرج فى جامعة أوهايو عام 1996، وأخرج أول أفلامه القصيرة «ديسباسيتو» 2004، وأول أفلامه الطويلة «نداء الهامش» عام 2011 الذى عرض فى مسابقة برلين ذلك العام، ورشح لأوسكار أحسن سيناريو لمخرجه عام 2012، وفاز بجائزة الفيلم الطويل الأول فى مسابقات نقاد نيويورك وبوسطون وشيكاغو وسان فرانسيسكو وتورنتو.
شاعر سينمائى مفكر
«كل شىء ضائع» يعلن مولد شاعر سينمائى من الطراز النادر الذى يفكر ويعبر بلغة السينما، وهو شاعر مفكر ينتمى إلى عائلة السينمائيين الفلاسفة مثل برجمان وتاركوفسكى وأنجولوبوليس وتيرانس ماليك، ويؤكد عبقرية السينما الأمريكية التى تصنع أنجح الأفلام التجارية وأعظم الأفلام الفنية فى نفس الوقت، وهذا هو سر عبقريتها، واحتفاظها بقمة السينما فى العالم.
الفيلم الذى كتبه مخرجه، وهو مؤلف سينمائى بامتياز، ملحمة شعرية عن صراع الإنسان من أجل البقاء، ومقاومة عوامل الفناء التى تولد معه، وتوجد من حوله فى الطبيعة. إنه ملحمة لأنه عن شخصية لا نعرف اسمها، وتمثل الإنسان على نحو مطلق، وشعر لأن الدراما من حدث واحد، وهو محاولات هذا الإنسان النجاة فى وسط المحيط بعد أن غرق اليخت الذى كان يستقله طوال مدة العرض (105 دقائق).
الفيلم نموذج السينما الخالصة، ليس لأن عدد الكلمات التى تنطق فيه لا تتجاوز عشرين كلمة، فلغة السينما صوت وصورة، وليست صورة فقط، والصوت فى السينما ليس الكلمات وحدها، وإنما كل شريط الصوت الذى يتضمن أيضاً المؤثرات الطبيعية والتعبيرية والموسيقى وكل ما يسمع، والأصوات فى فيلم شاندور هى الصوت الإنسانى وصوت الطبيعة وصوت الموسيقى، والأسلوب سينما خالصة لأن الأصوات تلتحم مع الصور التحاماً عضوياً بحيث يصبح المبنى هو المعنى ذاته.
التكامل الفني
إننا فى وسط المحيط طوال الفيلم مع شخصية واحدة لا نرى سواها، ويمثل هذا الدور فنان السينما الأمريكى العالمى الكبير روبرت ردفورد، وهو منتج ومخرج وكاتب سيناريو وممثل، فى دور من أدواره الكثيرة الرائعة، ولكنة الدور الذى يمكن أن يعتبر «دور العمر» بحق، والذى يقوم به بعد أن تجاوز الخامسة والسبعين ببراعة واقتدار قل أن يكون لهما مثيل.
وتتكامل العناصر الفنية تكاملاً مدهشاً، فالسيناريو كالعمل الموسيقى يتكون من افتتاحية وعدة مقاطع وخاتمة، والتصوير الذى قام به فرانك ج. دى ماركو للشاشة العريضة بالألوان يجعل حجم الشاشة مناسباً للتعبير عن شكل الملحمة، والألوان الداكنة والساطعة بين الليل والنهار وفوق الماء وتحت الماء تعبر عن معنى الصراع، وهناك لقطة غروب بالقرب من النهاية حيث تبدو السحب تصارع الشمس كما يصارع البطل الأمواج، من أعظم لقطات الغروب فى السينما من حيث قوتها التعبيرية.
والمونتاج الذى قامت به بيتى بيدور يحقق فكرة الشعر حيث لا يمكن الإمساك بالمعنى فى كلمات نثرية محددة، وإنما يوجد فى كل مشهد وكل لقطة، وفى العلاقات بين المشاهد واللقطات، ويجعل الفيلم وكأنه لقطة واحدة طويلة فى إيقاع يمضى فى الزمان وخارج الزمان فى آن واحد، والموسيقى التى ألفها ألكس إيبرت لا تسمع كموسيقى منفصلة، وإنما جزء لا يتجزأ من شريط الصوت، وتساهم فى تحويل الواقع إلى ملحمة تبدو بلا بداية ولا نهاية.
كل تاريخ الإنسان
إننا فوق الماء وتحت الماء طوال الفيلم فى الزمن الحاضر، ولكننا مع النهاية نكون قد عشنا كل تاريخ الإنسان فى صراعه من أجل البقاء، من زمن ما قبل الأديان إلى زمن الأديان وزمن العلم. ونحن لا نعرف للشخصية اسماً من دون افتعال، فلا يوجد الموقف الذى يؤدى إلى معرفة اسمه.
إننا لا نحبه ولا نكرهه، ولا نتابع التفاصيل الصغيرة التى تشكل نسيج الفيلم لنعرف هل سينجو أم لن ينجو، ولا حتى كيف سينجو إذا نجا، وإنما نتابع محاولاته للنجاة فى ذاتها ولذاتها، ونتأمل ضعف الإنسان وقوته، وكيف يواجه مصيره وحيداً وسط المحيط الهائل الذى يصبح معادلاً للوجود الإنسانى.
ورغم أننا بعيداً عن الحياة الاجتماعية على الأرض، إلا أن شاندور يعبر عنها فى فيلمه من خلال الأسماك الكبيرة التى تأكل الأسماك الصغيرة تحت الماء، أو هكذا يمكن تأويل هذه اللقطات، والشعر مفتوح على كل التأويلات. ونرى من الحياة على الأرض كذلك سفينة بضائع عملاقة تمر ولا تنتبه إلى طلقات الضوء التى يطلقها البطل لإنقاذه، وسفينة ركاب عملاقة لا تنتبه إليه بدورها. وكلا السفينتين نراهما من بعيد ولا نلمح فى أى منهما إنسانا. إنهما أقرب إلى السراب الذى يلوح للإنسان وسط الصحراء، ولكنهما هنا ليسا سراباً وسط المحيط.
الكتلة الصماء
في الافتتاحية نرى كتلة صماء نعرف بعد ذلك أنها شاحنة أحذية أطفال سقطت من سفينة بضائع واصطدمت باليخت الذى يستقله البطل وأدت إلى تسرب المياه داخله. وهى تبدو مثل الكتلة الصماء فى فيلم كيوبريك «2001 أوديسا الفضاء»، والتى نراها فى عصر الإنسان الأول، وفى عصر الفضاء معاً. وعلى شريط الصوت يقول البطل الوحيد إنه بذل كل جهده ليكون صادقاً، ولكنه فشل، ثم نقرأ على الشاشة عبارة «قبل ثمانية أيام». وحتى النهاية لا نعرف من أى عالم يتحدث بطلنا فى اليوم الثامن.
ومقاطع الفيلم تبدأ بصوت عابر يلتقطه جهاز الاتصال باليخت، فيلوح الأمل فى الاتصال بالعالم، وينادى البطل طالباً النجدة فنعرف أنه ينطق، ولكن الاتصال لا يتم، ويتأكد أن الجهاز لم يعد صالحاً للاستخدام. وتبدأ محاولات إصلاح اليخت، والحياة على الطعام المعلب وما بقى من المياه، والاستحمام بالمطر، والانتعاش بدفء الشمس. ولكن اليخت يغرق، فيلجأ إلى قارب النجاة.
يغلق البطل القارب من الداخل فيصبح مثل الرحم أو القبر. وعندما تمر سفينة البضائع ولا تنقذه يشعر باليأس ويبكى، ويصرخ فى الفضاء الواسع «يا إلهى»، ويلعن الوجود. وعندما يجد فى القارب «صندوق الإنقاذ» الذى يحتوى على جهاز حديث للإرشاد يحاول استخدامه لتحديد المكان الذى يوجد فيه، ويقوم بتحلية مياه البحر بوسائل بدائية لكى يشرب ويبقى على قيد الحياة.
ويتم الانتقال بين هذه المقاطع من خلال لقطات عامة فوق الماء وتحت الماء، وباستخدام الاختفاء التدريجى والظهور التدريجى، تماماً كما فى مقطع العمل الموسيقى.
اليد المنقذة
تبدو فى الأفق نقطة ضوء صغيرة للغاية وسط الظلام الدامس، وعندما يشعل البطل ما تبقى من أوراق لينبه إلى وجوده، يحترق قارب النجاة المطاطى، فيتطلع إلى السماء ويسقط فى قاع المحيط مستسلماً لمصيره. وبينما يلفظ أنفاسه الأخيرة تحت الماء يلمح ضوءاً فيتجه نحوه، وتمتد يد وتمسك بيده وتسحبه إلى أعلى فى لقطة قصيرة لا تزيد على ثوان معدودة ينتهى بها الفيلم.
قال برجمان عن تاركوفسكى، إنه وجد مفتاح الغرفة التى قضى حياته يبحث عنها، ودخلها بكل سهولة. وكان «برجمان» يقصد مشكلة التعبير عن القضايا الفلسفية المجردة بلغة السينما رغم أنها لغة تجسيد. وعندما يغمر الماء اليخت فى بداية فيلم شاندور نرى الأشياء فوق الماء وتحت الماء فى إشارة واضحة إلى عالم تاركوفسكى الذى طالما عبر عن الماء كمصدر لخلق كل شىء حى. ولو عاش تاركوفسكى وشاهد فيلم الفنان الأمريكى الشاب لقال إنه لم يجد فقط مفتاح الغرفة، ولكنه أنشأ قصراً منيفاً بعنوان «كل شىء ضائع».
اقتراب اليدين يذكر برسم مايكل أنجلو، على سقف كنيسة سيكستين، فى روما لليدين اللذين على وشك أن يلتقيا، ولكنهما هنا يلتقيان. إنها يد بشرية ولكنها تعبير عن يد الله الذى استنجد به الضائع فى المحيط فى منتصف الفيلم وأنقذه فى اللحظة الأخيرة. ومرة أخرى الشعر مفتوح على كل التأويلات.