كشفت موقعة الخرطوم الكروية عن جماع الأزمة الشاملة التى تحاصر العالم العربى حكومات وشعوباً، ومزقت الأستار التى تخفى مكنون الوجائع والعذابات التى تئن تحت وطأتها النفوس والعقول، وإن كانت تشى بإرهاصات مرحلة جديدة انحرفت عن مسارها الصحيح وأدخلتنا فى نفق مظلم ودرب طويل شاق من المعاناة، معاناة العجز عن التفكير العقلانى الصائب وغياب الإرادة الجماعية السوية، وزجت بنا جميعاً أفراداً وجماعات وأحزاباً وحكومات مثقفين وحكماء نفعيين وبسطاء كادحين ووصوليين منافقين وشرفاء، زجت بنا فى متاهات التخبط والانحراف والانحدار نحو السفح والقاع واستنزفت طاقاتنا فى معزوفة كئيبة من التردى المهين والمشين، المهين لكرامتنا كبشر عمروا هذه الأرض ومنحوا للحضارة الإنسانية عطاءات وإنجازات وطنية وإنسانية لا يمكن لأى مكابر أو مغرض أن يمحوها من الذاكرة الإنسانية (الجماعية) والمشين لتاريخنا بكل انتصاراته وانكساراته وصموده واستمراريته.
وقد ألقى الجميع مسؤولية الأزمة على الإعلام باعتباره أداة التهييج والتضليل والتصعيد المتدنى على الضفتين المصرية والجزائرية ونسوا عن غفلة أو عمد أن الإعلام هو قمة الجبل الذى يخفى فى أعماقه وتلافيفه الأسباب الحقيقية للأزمة، حقاً الإعلام مسؤول جزئياً ولكن الأخطر هو المخزون من الصراعات الاجتماعية، والقهر الاستبدادى، وتراكم الإحباطات النفسية، والشعور الجماعى بالعجز عن مواجهة الأعداء الحقيقيين فى الداخل والخارج، الأعداء الذين أفقرونا، ونهبوا ثرواتنا وسلبونا القدرة على الفعل الصحيح، وجعلونا نخلط ما بين العدو الدائم والخصم الطارئ وأربكونا إلى درجة عدم التمييز بين الأولويات الملحة والقضايا المؤجلة، مما أوصلنا إلى درك منخفض يقترب من الحضيض فكراً وسلوكاً، وأفقدنا السمة الوحيدة التى تميز الإنسان عن سائر الكائنات ألا وهى الذاكرة الفردية والجماعية-
لقد غاب أو غيب عن عيوننا التاريخ المشترك بين الشعبين المصرى والجزائرى، والذى يضم أنصع صفحات التواصل والمساندة والتفاعل والمسؤولية المشتركة إزاء قضايانا المصيرية، هل تصل المنافسة الضارية بين الاستثمارات والمستثمرين المصريين والفرنسيين والخليجيين على أرض الجزائر وهى السبب الكامن الذى أخفاه أو تجاهله الكثيرون الذين تناولوا الأزمة هل تصل المنافسة الوحشية إلى الحد الذى يجعل العداء بين الشقيقين مصر والجزائر يفوق العداء بيننا وبين إسرائيل؟
وتتوارى أمامه قضايا المصير العربى كله، لن أطيل الحديث عن تداعيات الأزمة التى وقف الكثيرون عند مظاهرها السطحية الآنية وتجاهلوا جذورها وما تخفيه من مآس وعذابات مزمنة لدى الشعبين المقهورين والتائهين خلف أوهام الحكومات وحرابها الأمنية الشرسة ووسائل إعلامها المسمومة، أين المثقفون وحراس حقوق الإنسان والمسؤولون عن رعاية وحماية ما تبقى من الحكمة والعقل لدى الشعبين المصرى والجزائرى؟
وهل تكفى الإدانات الهزيلة العقيمة ألم يكن جديراً بهم أن استدعوا من الذاكرة الجماعية أفضل ما تختزنه من عطاءات متبادلة بين الشعبين فى أوقات الحرب والسلم والمبادرة بوضع الأزمة الكروية فى حجمها الحقيقى منذ اللحظات الأولى لوقوعها لقد كان الجهل والغطرسة أسياد الموقف بعد أن تصدر الرياضيون بأقدامهم ساحة الإعلام المرئى، وجرفوا معهم المذيعين والمذيعات والفنانين والفنانات ومعظم الكتاب والصحفيين فى ملحمة مخزية وتم إقصاء المثقفين الحقيقيين الذين يعون وينتمون للتاريخ المشترك فى الفن والأدب والعلم والنضال الوطنى فى كل من مصر والجزائر، وتعالت أصوات القطيع الذين لا يدركون مدى الهول والقبح والتردى الذى أقدموا عليه فى حق التاريخ وحق الأجيال الجديدة التى لا تدرك الثمن الغالى الذى دفعه مليون ونصف مليون شهيد جزائرى من أجل استعادة عروبة الجزائر أى استقلالها الوطنى بمغزاه الشامل استقلال الهوية واللغة وحرية الإنسان على أرض الجزائر المحررة من الاستعباد الفرنسى على مدى 132 عاماً.
وعلى الجانب المصرى تجاهل معظم الذين تحدثوا فى الفضائيات تاريخ الرواد من المفكرين المصريين الذين أدركوا مبكراً ضرورة التواصل الثقافى وحماية الثقافة العربية فى الجزائر، وكانت زيارة الشيخ محمد عبده للجزائر 1903 باكورة ظلوا يتحدثون عنها جيلاً بعد جيل، ثم زيارات الفنانين العظام وفرقهم (جورج أبيض ويوسف وهبى وغيرهما) للجزائر، وما تلا ذلك من أفلام ومسلسلات مصرية ومعلمين وأساتذة جامعات ذهبوا للجزائر لمساندة أشقائهم فى استعادة اللسان العربى والذاكرة العربية، وتعزيز إرادتهم فى تحقيق أنبل وأسمى أهداف الثورة الجزائرية العظيمة..
ويذكرنى فى هذا المقام قول الرئيس الراحل بومدين أثناء مقابلتى له فى الجزائر عندما دعانى لإعداد أطروحة الماجستير عن صحافة الثورة الجزائرية، قال: «لقد حققنا الثورة الأولى وهى تحرير الأرض والإنسان الجزائرى من الاستعمار الفرنسى وتبقى أمامنا ثورتان ثورة التعريب والثورة الزراعية»، والآن بعد مرور 47 عاماً على استقلال الجزائر ماذا تحقق من هذه الأهداف النبيلة للثورة الجزائرية، لقد تخرجت عدة أجيال تتحدث وتفكر وتكتب وتعبر باللغة العربية وازدهرت ينابيع الإبداع العربى فى الجامعات والمدارس والمؤسسات الجزائرية، ولكن لايزال الطريق طويلاً وشاقاً ويتطلب المزيد من الرعاية والمساندة والتضافر لمواجهة اللغات الأجنبية التى استعادت بعض مواقعها فى مدارسنا وجامعاتنا المصرية والجزائرية على السواء مسنودة بنفوذ الاحتكارات العولمية وأباطرة السوق فى عصر العولمة المجيد.
والآن بعد أن هدأ قليلاً غبار المعركة المفتعلة علينا جميعاً مصريين وجزائريين أن ننحى جانباً الآثار المؤسفة التى قد تترك بعض الندوب فى النفوس، وقد تدوم بعض الوقت ولكن تبقى فى النهاية ينابيع التواصل المتجذرة فى وجدان الشعبين والهموم المشتركة والتحديات التى تواجهنا آنياً ومستقبلياً لن نتغافل عن دور الحكومتين المصرية والجزائرية ومستوى إدارتهما للأزمة الذى كان أدنى كثيراً مما هو متوقع منهما حتى بمعيار المصالح المشتركة الآنية وليس بمعيار التاريخ المشترك.
سوف أركز على دور المجتمع المدنى بجميع مؤسساته الثقافية والتعليمية والإعلامية والاجتماعية والاقتصادية، والتى سجل أغلبها تخاذلاً وتراجعاً غير مفهوم والتباساً غير متوقع فى كلا البلدين، جميع هذه المؤسسات مطالبة بأن ترتفع إلى مستوى المسؤولية المشتركة. سوف أبدأ بالجامعات المصرية والجزائرية التى تتحمل مسؤولية مضاعفة التواصل العلمى والثقافى من تبادل الأساتذة والإشراف العلمى المشترك والندوات والمؤتمرات العلمية المشتركة والمتبادلة،
أما المؤسسات الثقافية فهى تتحمل مسؤولية أكبر لأنها تخاطب جمهوراً أوسع وأشمل. يجب أولاً إدانة الأصوات التى دعت إلى القطيعة بين مصر والجزائر والتى انطلقت بصورة انفعالية غير مدروسة من بعض الفنانين وكثير من مدعى الثقافة والجهلاء، وجعلت الجهل سنداً للتعصب الأعمى الذى لن يستفيد منه سوى الأعداء الحقيقيين والانتهازيين والمنتفعين محدودى الأفق، وعلى المؤسسات الثقافية والمثقفين أن يبادروا بالسعى الجاد لإزالة الفجوة والجفاء الذى أحدثته الأزمة والتمسك بمواصلة أو مضاعفة التواصل الثقافى من خلال تنشيط جميع أشكال التبادل الثقافى من زيارات ومؤتمرات وأنشطة فنية وثقافية جماهيرية بين مصر والجزائر، والتركيز على القواسم المشتركة فى منظومة القيم والتراث الثقافى العربى والتضافر من أجل مواجهة التحديات التى تفرضها ثقافة العولمة التى تسعى إلى طمس وتهميش كل ما هو مضيء فى الثقافة العربية الإسلامية.
ثم يأتى دور الجمعيات الأهلية الشبابية والنسائية وهى مطالبة بإعطاء أولوية قصوى للعلاقات العربية العربية، وخصوصاً صناع المستقبل العربى من الشباب والنساء عليهم مد الجسور الاجتماعية والثقافية والرياضية بين الشباب والنساء فى مصر والجزائر ومراعاة عدم الانحصار فى طوق أجندة المانحين الأجانب الذين يستهدفون بث الفرقة والتشتت وزرع الضغائن المفتعلة بين الأشقاء العرب واستغلال التناقضات الثانوية «الاثنية والعرقية» والدينية والطبقية مستخدمين جميع آليات التحايل والدهاء لتكريس مصالحهم وتهميش مصالحنا وحقوقنا المشروعة،
ولا يمكن أن نستبعد مسؤولية الفرق الرياضية فى كلا البلدين، وقد كثر الحديث عن الالتزام الأخلاقى والقيم الرفيعة التى تسعى الرياضة إلى غرسها لدى الشعوب وقد أظهرت الأزمة الأخيرة التزاما وانضباطاً غير منكور من جانب الفريق المصرى شهدت عليه الملاعب فى القاهرة والخرطوم وقد تعلمنا الكثير من حكمة المدربين وحرصهم على ضبط النفس، ولكن أداء الرياضيين الذين اقتحموا الفضائيات مسنودين بأموال ونفوذ المستثمرين لم يكونوا على المستوى اللائق، ولابد هنا من وقفة حازمة مع القائمين على الإعلام المصرى الفضائى التجديد نحن فى حاجة ماسة إلى ميثاق شرف للإعلام الفضائى، مدعوم بآليات رادعة وضوابط محكمة لحماية وسائل الإعلام الجديدة من الدخلاء غير المؤهلين علمياً وثقافياً وأخلاقياً،
وبالنسبة للإعلام الرياضى المقروء هناك نقابة الصحفيين التى تملك صلاحيات كفيلة بتصحيح المسار المهنى لهذا الفرع الصحفى الذى اتسع نطاقه دون مراعاة للضوابط المهنية والأخلاقية رغم أن بداياته كانت على أيدى مثقفين كبار لهم قدرهم مثل نجيب المستكاوى الذى غرس فى عقول ونفوس جيلنا القيم الجميلة والرفيعة للرياضة عموماً، وكرة القدم خصوصاً، ولكن أزمة الخطاب الرياضى بدأت بمجىء بعض الدخلاء غير المؤهلين، فضلاً عن عوامل كثيرة أخرى اقتحمت مجال الرياضة محملة بقيم السوق والتجارة «البيزنس»، فأفسدت النفوس وأصبحت كرة القدم اللعبة الشعبية المحبوبة والمفضلة لدى الجماهير سلعة تتخاطف الأندية أقدام لاعبيها فى بورصة تنافسية بغيضة.
ونختم فى النهاية بمسؤولية الإعلام المصرى والجزائرى الذى لا يتحرك فى فضاء ولكنه يعبر عن قيم ومصالح الذين يمتلكونه ويديرونه، والسؤال المطروح: لمصلحة من المعارك والمهاترات الإعلامية التى تزعمتها بعض الصحف الجزائرية والفضائيات المصرية؟ هل أدرك هؤلاء الإعلاميون حجم الجرم الذى اقترفوه فى حق الشعبين وتراثهما المشترك، وما هى المكاسب التى جنوها بإشعال روح التعصب والتهييج وغياب الضوابط المهنية وإهدار حق الجماهير فى المعرفة والوعى الصحيح بأبعاد الأزمة التى كان من المفترض ألا تتجاوز حدود الملاعب والمدرجات؟
لقد أصبحت الكرة فى ملعب اتحاد الصحفيين العرب والنقابات والاتحادات الإعلامية فى مصر والجزائر، فهل يعى المسؤولون فى هذه المؤسسات الإقليمية والقطرية واللجنة الدائمة للإعلام العربى بجامعة الدول العربية؟ هل يعون مسؤولياتهم الحقيقية ويسعون بجدية وإخلاص لتفعيل مواثيق الشرف وإعادة الانضباط وتصحيح المسار الإعلامى ومراجعة الخطاب الإعلامى العربى؟ هل يفعلون ذلك؟ أتمنى، وإن كنت لا أتوقع الكثير.