كثيرًا ما يتردد على ألسنة المثقفين والعامة فى اللقاءات والندوات المختلفة سؤال محير يذهبون فى الإجابة عنه مذاهب شتى، وهو: كيف يمكننا القضاء على التخلف واللحاق بالأمم المتقدمة؟. لا شك أن الدافع الحقيقى وراء هذا السؤال يكمن بالقطع فى الهوة الواسعة التى تفصل بين الأمم المتقدمة والأمم المتخلفة. فالواقع الحالى ينطق بحقيقة لا يختلف حولها اثنان، ألا وهى أن شعوب الأمم المتخلفة تعيش على ما تبتكره قريحة الأمم المتقدمة فى كافة المجالات: التكنولوجيا، الطب، التعليم، التدريب...إلخ، وهى لا تكاد تسهم بشىء يذكر فى هذا الابتكار. ففى المجال التكنولوجى تبتكر الدول المتقدمة منتجات جديدة فى صناعة السيارات والهواتف المحمولة وفى تصميم مناهج تعليمية متطورة وحلول مبدعة للمعضلات العلمية والتكنولوجية، فتتلقف منتجاتها على الفور الأمم المتخلفة لكى تستمتع هى الأخرى بالانتفاع بها.
وهذه القاعدة تنطبق فى الواقع على كل الصناعات الأخرى مثل صناعة الغذاء والدواء والآلات الزراعية واستخدام الطاقة.. إلخ. بيد أن عددا قليلا من الدول تمكن من كسر هذه القاعدة وتمكن من تغيير هذا الوضع الحضارى المأزوم. فثمة أمم انتهجت لنفسها نسقا فكريا تمكنت بواسطته من إحداث طفرة تقدمية هائلة فى كافة المجالات واحتلت مكانة عليا فى مقدمة الدول العظمى كالصين مثلا. ولا ينفك المرء حينما يحاصره محدثوه بهذا السؤال أن يعود مرارا إلى الفيلسوف الألمانى إيمانويل كانط الذى كان هاجس التنوير يسوطه ليل نهار، فجعله يفرد مقالا مهما له لا يزال كثير من الفلاسفة والمفكرين الذين أتوا من بعده يعملون فيه أدوات التحليل لقيمته الفلسفية وأهميته فى إيقاظ الإنسان من سبات التخلف العميق. إن الأسئلة التى يثيرها هذا المقال فى ذهن قارئه هى فى الواقع أسئلة مستفزة فهى من قبيل «كيف يمكن تنوير المتخلف؟» وهل يمكن لفرد واحد أن يتنور؟، «وما الجدوى من تنويره إذا كان يعيش وسط متخلفين؟».
لا شك أن هذه الأسئلة قد راودت كانط حينما شرع فى كتابة مقاله التاريخى «ما هو التنوير؟» والشىء اللافت فى هذا المقال أن كانط حينما أراد أن يعرف عصر التنوير عرفه على نحو سالب، أى عرفه بوصفه مخرجا من حالة ذهنية معينة هى أشبه بالمرض المزمن عرضها الأساسى هو جبن المريض عن استخدام عقله وخوفه منه. ومعنى ذلك أن تنوير الإنسان عند كانط يبدأ حينما يخرج من حالة القصور الذهنى الذى يضع نفسه فيه تحت وصاية آخر يفكر عنه ويدبر له أموره، إلى حالة يتجرأ فيها على استخدام عقله ناقدا ومجددا. بيد أن كانط وضع شروطا لعملية التنوير. فبخلاف شرط الشجاعة فى التنوير بوصفه فعلا ينبغى إنجازه بشكل شخصى ثمة شرط آخر وهو انخراط الجمهور فى سيرورة التنوير، بالرغم من بطء عملية التنوير الجماعى. إذ لا يكفى عند كانط أن يستنير فرد واحد. ويستلزم التنوير شرطا جوهريا آخر وهو الحرية لأن الشجاعة فى استخدام العقل تقتضى أن ينعم هذا العقل بالحرية فى التفكير بعيدا عن وصاية الآخرين فى المسائل المتعلقة بالدين. غير أن كانط يفرق بين استعمالين للعقل: استعمال عام يترك فيه للعقل الحرية فى استخدام إمكانياته واستعمال خاص ذى طابع مهنى يتعين فيه على العقل الخضوع لأوامر تقتضيها مصلحة المجتمع. مثل الجندى المحارب الذى لا يجوز له عصيان الأمر بإطلاق النار على العدو بحجة عدم اقتناعه به مثلا. فلكل مهنة ظروفها الخاصة التى ينبغى على العقل احترامها.
وما السبيل إذن إلى تنوير العقل الجمعى؟.. لا شك أن تنوير العقول كما يرى كانط يرتكز على محورين أساسيين: تحرير العقل من الوصاية المفروضة عليه، وبناء الإنسان الجديد، وقد استن السيد رئيس الجمهورية قاعدتين لإنجاز التنوير المنشود: العمل دون كلل على تجديد الخطاب الدينى وما يستتبع ذلك من تصفية العقول من بذور التطرف والإرهاب والسير قدما فى تطوير التعليم بغية خلق مجتمع منتج ومبدع.