في بداية التسعينيات من القرن الماضى، أجريت حوارا مع المفكر الأمريكى الكبير، البروفيسور بول كينيدى صاحب الكتاب المزلزل وقتها «قيام وسقوط القوى العظمى».. صدمنى في الحوار أنه قال إن المصريين عليهم أن ينتبهوا إلى أن الجغرافيا تتحرك شرقا إلى موانئ ومدن آسيا الصاعدة، ولن تظل عبقرية المكان المصرية بنفس الأهمية ما لم يضف إليها البشر قيمة من عملهم وعلمهم.
بعدها بفترة زار «لطفى واكد»، أحد ضباط ثورة يوليو ورئيس مجلس إدارة صحيفة «الأهالى» التي كنت أعمل بها، الصين وماليزيا، لأول مرة، وعاد مذهولا من قوة التطور الذي يجرى هناك وقال إننا «لازم نلحق نفسنا». في ذلك الوقت انطلق ما يعرف باسم المشروع القومى لتنمية سيناء، وكان من بين مكوناته الرئيسية إنشاء ميناء كبير في شرق تفريعة بورفؤاد، وظهرت فكرة استصلاح 400 ألف فدان وبناء مدينة مليونية، ولاحقا تقرر إنشاء منطقة اقتصادية في شمال غرب خليج السويس، بمميزات، ولكن حصاد كل ذلك وحتى 2014 كان باهتا.
وفى أغسطس 2015 وبعد عام من تشغيل قناة السويس الجديدة، أطلق الرئيس السيسى مشروع التنمية في منطقة قناة السويس، ليعمل كمنطقة اقتصادية لها قانونها الذي يمنح مجلس إدارتها سلطات كل الوزارات المصرية ما عدا الدفاع والداخلية والخارجية والعدالة، لتسريع وتيرة التنمية، وتحدث الرئيس عن خلق مليون فرصة عمل حتى 2030، وقال من الموقع ذاته في نوفمبر 2015، «ازرعوا الأمل في الناس». تولى رئاسة مجلس إدارة المنطقة في البداية الوزير الأسبق الدكتور أحمد درويش، ولما بدا أن وتيرة العمل بطيئة بغض النظر عن الأسباب، تم إسناد رئاستها إلى الفريق مميش رئيس هيئة قناة السويس في نفس الوقت، وبعد ذلك تولى مسؤولية هيئة المنطقة، المهندس يحيى زكى، الذي تم التجديد له منذ شهر تقريبا.
رغم جهود ضخمة لكل من قاد، ظل هناك ما يشير إلى أن الأمور في النهاية لا تمضى على ما يرام، خاصة في بورسعيد والإسماعيلية، بسبب تداخل وتشابك الملفات أحيانا، وبيروقراطية وعراقيل غير واضحة أحيانا أخرى، وبسبب تعقيدات في التفاوض مع أطراف استثمارية رئيسية مثل موانئ دبى التي تعمل في العين السخنة من قبل وتريد تطوير مساحة كبيرة بالمنطقة، وبيروقراطية الروس الشديدة فيما يتعلق بإجراءات إنشاء المنطقة الصناعية الروسية المتفق عليها، على مساحة خمسة كيلو وربع بشرق بورسعيد وهكذا، ومع ما تقدم ظلت تفسيرات التأخير غير كافية، ولم يكن مفرا من أن نرى بأعيننا ليكون حكمنا على مدى الإنجاز دقيقا.
لو كان مكتبك في ميناء شرق بورسعيد، ستطل مثل الربان على عاصم، مدير الميناء، بنظرة شمالية على أوروبا من الشباك، ومن اليسار على إفريقيا ومن اليمين على آسيا، فأى موقع فريد حقا، لكن للطبيعة حكمتها الربانية، فمع هذه الميزة يوجد تحد رهيب هو أن الأرض المحيطة بالميناء وبمساحة كبيرة جدا غير متماسكة كـ«البالوظة» (قرية الصحفيين التي تحمل هذا الاسم بعيدة عن الموقع وهى على الحد الغربى لمركز بئر العبد) أو سبخة طينية أو «الروبة» أحيانا بتعبير الفلاحين، كأثر من آثار فرع النيل القديم ورشح البحر، ولأنه لا منطقة اقتصادية دون موانئ كما قال الفريق مميش، ولا موانئ دون ظهير صناعى ولوجيستى كما يقول المنطق، فكان لابد من بذل جهد جبار لمصالحة التربة إلى متطلبات التنمية وخلق الذهب بالعمران والتنمية من ركام الطين والماء المالح والأوحال. يتم هذا من خلال دك التربة أو تغييرها عبر جلب رمال من مسافات على بعد عشرات الكيلو مترات أحيانا، ودق فتائل بعمق من 4 إلى 7 أمتار لامتصاص المياه الجوفية وتبخيرها، وإجراء اختبارات تحمل بتكديس كتل ضخمة من الصبة فوق مواقع مختارة ومراقبة مقدار الهبوط كل ليلة، وقراءة خرائط القمر الصناعى لبيان مدى التقدم في السيطرة على التربة يوما بعد آخر.
لذلك فإنه بمجرد خروج المرء من نفق 3 يوليو العظيم حقا خاصة من جهة تحسبه للمستقبل، ستجد مباشرة شهادة إبراء ذمة عن التأخر في إقامة البنية التحتية اللازمة والتأخر في تشغيل مصانع وجلب استثمارات روسية أو غير روسية في هذه المنطقة، حيث برك المياه ولون الطينة الكئيب وعشرات من العربات المتناثرة تشيل وتصب وحفارات وكراكات وهراسات كلها تعمل تحت عنوان لين اسمه تحسين التربة بينما الحقيقة أن ما يحدث هو إنشاء جغرافيا جديدة تماما، فالطين رمز الخير في الدلتا، لكنه ليس رمزا للخير بوجوده بهذا الشكل بصحراء سيناء، ولن يكون إلا بتغيير طبيعة الموقع تماما.
تبلغ مساحة المنطقة الاقتصادية الكلية لقناة السويس 460.6 كيلو متر مربع، وتمتد من العين السخنة إلى الإسماعيلية وبورسعيد، وتبلغ مساحة منطقة شرق بور سعيد التي زرنا أطرافا منها نحو 63 كيلو، وهى تشمل منطقة صناعية على 16 كيلومترا مربعا تقوم بتنميتها شركة شرق بورسعيد للتنمية، كما تشمل منطقة أحواض سمكية مطلة على البحر (لم تعمل بعد)، والمنطقة الروسية التي لن يبدأ العمل في أول مليون متر مربع منها إلا في ٢٠٢١، ومنطقة لوجستية، والميناء ومواقع للخدمات العامة في مقدمتها محطة تحلية مياه البحر التي تقوم بها الهيئة الهندسية والتى أوشك العمل بها على الانتهاء وسوف تنتج 150 ألف متر مكعب يوميا تصل لاحقا إلى 250 ألفا.
لم يتوقف العمل في تحسين التربة هنا خلال كورونا ولكنه تباطأ نسبيا ما نتج عنه تسليم شركة التنمية 2.5 كيلو فقط من الـ١٦ كيلو، كمرحلة أولى، لتعمل عليها بدلا عن 4 كيلو، وهناك مصنع نسيج وملابس على وشك أن يعمل وباقى الأرض المخصصة لمستثمرين كبار ومتوسطين لا تزال تحت التجهيز.
مصداقا لكلام بول كينيدى عن وجوب الإضافة، ظهرت عبقرية المصرى في تعظيم قيمة الموقع بفكرة بسيطة وهى إقامة قناة جانبية بطول أكثر من 9 كيلومترات لفتح الميناء على المتوسط مباشرة لتدخله السفن الراغبة دون المرور في قناة السويس والوقوف في طابور قافلة الجنوب، كل ذلك بكراكات هيئة القناة التي كانت انتهت بالكاد من حفر القناة الجديدة. اتساع القناة الفرعية 250 مترا وعمقها 18.5 متر بما يكفى لاستقبال أكبر سفن الحاويات في العالم. يعنى بمعنى آخر أصبح لدينا تفريعة ثالثة للقناة، ما أتاح منافع عديدة أخرى غير رفع تنافسية ميناء شرق، ومن أهمها إقامة رصيف مينائى كبير مواجه لرصيف شرق وتوفير خلفية لوجستية لكل ما سيقام عليه من محطات وقد تم بالفعل إقامة وتشغيل مشروع مهم عليه هو محطة دحرجة السيارات، وفى الانتظار محطة متعددة الأغراض، وتحت الدراسة محطة لاستغلال المخلفات لتكون أول مشرو ع خدمى كبير. بلغ طول رصيف ميناء شرق بورسعيد قبل نقل تبعيته مع خمس موانئ أخرى هي بورسعيد القديم والعريش والسخنة والأدبية والطور، إلى هيئة المنطقة الاقتصادية بقرار جمهورى، بلغ 2.4 كيلو متر وتقوم بتشغيله شركة قناة السويس للحاويات التي تساهم ميرسك العالمية فيها بـ55 بالمائة مع آخرين منهم البنك الأهلى وهيئة قناة السويس، لكن ضمن الإنجاز الذي تحقق إضافة رصيف مجاور بطول 3 كيلو بدأ استغلاله في 5 مارس 2019، بعمق ١٨.٥ متر يمكن أن يصل مستقبلا إلى ٢٢ مترا، وإضافة 2 كيلو متر أرصفة على الضفة الأخرى أي الغربية التي بها محطة الدحرجة، ولن تكون تلك الاضافات نهاية المطاف.
أعود إلى الذهب فكما قال الربان عاصم أن أحد المستثمرين البورسعيديين سأله عن أمر ما يخص الاستثمار في الموقع في عام ٢٠١٦، فقال له وهو خجل «مش حقدر أرد على حضرتك إلا بعد 6 أشهر»، فزمجر المستثمر وغضب وذهب ولم يعد، مع أن الربان خفف الكلام أصلا حيث كان لا يزال أمام المنطقة الكثير من العمل لتصبح بعض مساحاتها جاهزة للاستثمار. حاليا يبدو أن ٢٠٢١ سيشهد ومرة واحدة ظهور الكثير من النتائج على الأرض.. يعمل في التحسين وإنشاء البنية التحتية حسن علام والهيئة الهندسية ومعهم نحو 36 شركة مصرية أخرى. الآن ها نحن في مبنى فاخر وحداثى جدا لشركة شرق بورسعيد للتنمية في قلب المنطقة الصناعية الجارى فيها مد البنية التحتية اللازمة لها تمهيدا لبيع مساحات للمستثمرين فيها وقد بيعت مساحات بالفعل، وليس هناك أكثر دلالة على مدى التطور الذي حدث من أن يقول أحمد المفتى مدير عام شرق بورسعيد للتنمية في اللقاء معه إننا اكتشفنا أنه كان يجب بناء فندق أو موتيلات في وقت مبكر عن هذا لكن سنقوم بذلك. فور أن ننتهى من مساكن العمال التي سنبدأ العمل بها في 2021. كان العمال والفنيون والمهنيون من بورسعيد وما هو أبعد منها ينتقلون إلى شرق القناة ثم يعودون يوميا مع إرهاق المعديات والتفتيش وطول وقت الرحلة.. الآن يوشك حلم الإقامة الدائمة أن يبدأ.. ويشار إلى أن المنطقة الصناعية ستخلق 400 ألف فرصة عمل مباشرة في فترة نحو 13 عاما وسيكون بها نحو 1200 مصنع متنوع لكن ليس من بينهم صناعات ثقيلة، وسيكون أكبر مصنع بها غالبا هو مصنع عربات السكة الحديد والمترو والمونوريل الجارى تشكيل تحالف وطنى أجنبى لإقامته حاليا، وهو سينتج للسوق المحلية والتصدير إلى إفريقيا والمنطقة العربية بعلامة تجارية عالمية، وهذا النهج سيتكرر مرة أخرى ومرات. ما يهم المستثمر أجنبيا كان أم مصريا هو تكلفة أقل في الطاقة والمدخلات وأجور العمالة، وهذا مما يميز المنطقة بصفة عامة بشكل أوضح جدا وفق حسابات أجرتها مكاتب عالمية، والعامل الثانى هو الخدمات وقد قال لى الفريق مميش في وقت سابق للزيارة إن أحد المستثمرين الأجانب قال له «أنا موافق أجى عندكم فلديكم ميزات جيدة.. لكن قل لى أين أقيم.. وأين أعالج» ومن وقتها شغلت نفسى وبدعم من الرئيس السيسى في تطوير مستشفى الإسماعيلية، وإقامة فندق محترم وإلى ذلك أيضا حسب مميش، فإن التنمية لن توجد دون بناء مساكن للعمال ومدارس وخدمات. يبقى أن بيروقراطية بعض الوزارات لا تزال مشكلة أمام المنطقة والمستثمر، رغم قوة التفويض الموجودة في قانون المنطقة ولائحتها والواضح أن الاجتماع الذي عقده الر ئيس السيسى منذ أسبوعين مع رئيس الوزراء والمهندس يحى زكى قد أرسى أساسا جديدا للعمل ستظهر نتائجه في الأيام المقبلة.
لقد كان تأسيس شركة مرافق أحد الردود الجيدة من المنطقة على تحدى الحاجة لتسريع إقامة البنية التحتية، ومن هذا النوع من الأفكار برزت أيضا فكرة أفصح عنها لنا المهندس أحمد المفتى، مدير عام شركة بورسعيد للتنمية وهى عمل محفظة مالية بالشراكة مع الصندوق السيادى وأطراف أخرى تقوم بالتمويل والاستثمار ثم التخارج لاحقا أي تعمل ككاتليست أو «محفز استثمارى» وهكذا، ومن شأن أمر كذلك تسريع وتيرة الإنجاز وتعويض أي تأخر في قدوم الاستثمار الأجنبى بسبب كورونا أو غيرها.
المثير أن الجيل الذي تعود أن يتحدث عن باب واحد واتنين وعشرة وأربعتاشر في ميناء الإسكندرية، سيفاجئه أن ميناء شرق بورسعيد بكل واعديته له باب واحد حتى الآن وطريق الوصول من البوابة إلى الساحة للتحميل أو التفريغ غير معبدوعلى الشمال، مساحات كبيرة مخصصة للوجستيات لا يزال بها الكثير من العمل لتحسين التربة وإقامة البنية التحتية، ويبدو أنه لم يكن هناك مفر من إقامة مهبط للطائرة وبناء خاص لاستقبال الرئيس وقت زيارته الميناء لافتتاح التجديدات، ومع كل ذلك، وفى عز كورونا، شهد شهر أغسطس أعلى نشاط تداول في تاريخ عمل شركة الحاويات بالميناء وسجلت أشهر 2020 بالمجمل زيادة نحو ثلاثين بالمائة، مدفوعة بتشغيل نفق 3 يوليو جزئيا ثم كليا طوال اليوم، وحل مشكلة الرسوم التي كانت قد تسببت في طفشان توكيلات ملاحية إلى بيريوس اليونانى، وطبعا ومن قبل كان تأثير الإرهاب السلبى على الميناء، والأخير انكسر جدا الآن والحمد لله، كل ذلك إلى جانب القناة الفرعية والظروف التي تعمل لصالح مصر وموانيها مثل تطورات في مضيق سنغافورة وفى طريق الحرير وزيادة الطلب عل الفاكهة والخضروات المصرية في عهد كورونا وبالمناسبة الميناء به وحده نحو 45٪ من الحاويات المبردة بموانئ مصر، وحسب وسيم محمد المدير التجارى بالميناء فقد قل زمن الوقوف على المخطاف من ٨ ساعات إلى 4 ومخطط النزول به إلى ساعة وربع ثم إلى زيرو، لكن تبقى التحديات قائمة، فكل جامعات آسيا تدرس حاليا فرص كل دولة في طريق الحرير، وأبوظبى تطور موانيها، ودبى ومنطقة الدقم الاقتصادية في عمان تمضى على قدم وساق، وتوجد مشاريع مناطق اقتصادية في السعودية والأردن، ومستجدات تطوير الممر الشمالى الجليدى ليكون بديلا جزئيا لقناة السويس في ربط شرق آسيا بأوروبا، والجميع يحلم بمكانة مينائية تنافسية، ويسعى لتقديم أسعار أقل وحوافز مختلفة وشباك واحد حقيقى بل وحسب وسيم أيضا فالمفاضلة في تقييم الخدمة المينائية تشمل كل الإجراءات بما فيها المعاينة والكشف والتثمين والإفراج والتطور الرقمى والتكنولوجى، ويلفت وسيم النظر إلى أن الأتمتة الكاملة قد لا تكون أفضل ما يمكن عمله في بعض الموانئ مثل ميناء شرق بورسعيد وإنما رقمنة في حدود رفع مستوى جودة وسرعة الخدمة. وفى بحث لاثنين من باحثى الأكاديمية العربية للنقل البحرى حول شرق بورسعيد مقارنة بغيره قالا إن سمعة الميناء أيضا عنصر مهم من حيث ندرة حالات الفقد والإهمال والسرقة والفساد والحوادث، ولميناء شرق سمعة طيبة في هذا المجال، لكنهما نبها إلى أن الكثير من الميزات التي يخلقها أي ميناء لنفسه سرعان ما ينسخها الآخرون لذا لابد من التطوير المستمر.
الربان على الذي عمل بموانئ أبوظبى وطاف العالم حصل على ماجستير في الاقتصاد وعلوم السياسة ودرس في هولندا ولندن، فضلا عن خبراته البحرية يؤكد أن فرصة شرق بورسعيد تظل الأقوى، وأنه حتى العقبات التي لم يكن ممكنا تصور حلها مثل بدائل الدخول والخروج إلى سيناء بعامة والميناء بخاصة أصبحت متاحة الآن ومتعددة في شكل انفاق ومعديات وكوبرى السلام وكبارى عائمة والقناة الفرعية ذاتها. يجرى بالطبع تطوير ميناء بورسعيد القديم بخطة تستمر مرحلتها الأولى نحو عام ونصف لجعل غاطسه 14 مترا بدلا عن ١٢ فقط بيد أنه لم يكن هناك متسع لزيارته. سهل الطينة، أرض الذهب الحقيقية وموطئ الأمل ونقطة التمركز العمرانى المقبل في بلادنا وهى ستنهى ولمرة واحدة صورة مصر المتكدسة في شريط ضيق على النيل وعلى انفراجة في الدلتا سرعان ما يصدها البحر.