جائحة الكوفيد-19 التى داهمتنا وأوقفت الحياة مدة تقارب ستة شهور والعودة إلى الحياة الطبيعية بطيئة بل تتعثر بسبب بقاء الجائحة مدة طويلة كما يؤكد العلماء، وعلينا أن نتعايش معها كما يؤكد السياسيون، ولكن الجائحة نجحت فى أن توحد البشرية وتدرك أنها عائلة واحدة فإما ننمّى ونعولم ما اكتسبناه من دروس أو نرجع إلى قانون «أنا ونفسى وبس».
إن الجائحة لم تتسبب فقط فى أزمات صحية للناس ومن فقد اتزانه النفسى فقط، لكنها ضربت العديد من جوانب الحياة البشرية من العائلة والسياسة والعمل إلى الشركات والتجارة والسياحة وغيرها. إن هذا الطابع المتعدد الأوجه والمترابط لانتشار الوباء يذكرنا بأحاديث الحكماء عن ارتباط كل شىء ببعضه البعض دون انفصال. فالإنسان هو الأولوية لا الاقتصاد، إن الحكومات كافة قد اضطرت لاتخاذ إجراءات قوية أدت إلى إيقاف النشاطات الاقتصادية، ما يؤكد ضرورة الاهتمام بالصحة.
إن المبادئ الاجتماعية تذكرنا بضرورة ألا تقتصر العناية بالأشخاص على الصحة الجسدية، بل يجب الاهتمام بكامل الشخص الإنسانى والذى يجب أن يكون الهدف الأول للعمل السياسى والاقتصادى والخدمى فى إطار مسؤولية مشتركة فى البيت المشترك وهو العالم بل الكرة الأرضية. وهكذا فإننا ننادى مجددًا أن يكون الاقتصاد فى خدمة الإنسان لا الإنسان فى خدمة الاقتصاد، وأن يضمن لكل شخص الشروط اللازمة لبلوغ تنمية بشرية متكاملة وحياة كريمة ولا يكون الإنسان مُستغلا من قبل الشركات من أجل المال وتنمية الاقتصاد دون النظر لكرامة الإنسان. ونلفت الأنظار إلى بعض الأخطار التى ظهرت خلال مكافحة الجائحة، ومن بينها التركيز على الصحة الجسدية ما قد يعنى تجاهل البعدين العائلى والروحى، فالوضع المأساوى الذى عشناه قد أبرز حدود مفاهيم للمواضيع المتعلقة بالصحة، اقتصر على الجوانب التقنية، وأنكر عمليًا بعض الاحتياجات الأساسية وذلك من خلال منع أفراد العائلة من المرافقة الروحية للمرضى والحضور بجانبهم ومساندتهم. وأن هذا يستدعى منا تأملًا وتفكيرًا أكثر تعمقًا حول التساؤلات العديدة التى طرحتها علينا الجائحة والتى كشفت اعتمادنا المتبادل على بعضنا البعض من جهة وضعفنا من جهة أخرى. فلا يمكن لأى جماعة سياسية تحقيق مصالحها والتنمية بالانغلاق على الذات.
فالترابط الإنسانى يلزمنا بالتفكير بأننا فى عالم واحد، وفى مشروع مشترك. إننا وبدلًا من تشجيع التعاون من أجل الخير العام نشهد تشييدًا لجدار حولنا، جدار نفسى عنصرى، واعتبار الحدود ضمانًا للأمن، وممارسة انتهاكات للحقوق مما يجعل هناك أجواء نزاع عالمى مستمر.
إن الارتفاع من جديد لنفقات التسلح بعد أن شهدت مرحلة انخفاض بعض الشىء ارتبطت بالإجراءات الخاصة بمواجهة الجائحة مع كل هذه الصراعات التى طفت على السطح، بينما نحن فى حاجة بالأحرى فى هذه الفترة إلى زرع السلام والصداقة والخير لا الكراهية والخوف. إن الترابط العالمى يتطلب إجابات عالمية على المشاكل المحلية، مشددًا على ضرورة أن تحل عولمة الأمل محل عولمة الإقصاء واللامبالاة. إن الاقتصاد يجب أن تتوفر فيه فسحة لمنطق الهبة ومبدأ المجانية ويعكس لا فقط التضامن بل الأخوة الإنسانية بشكل أكثر عمقًا وإعادة إطلاق موضوع التنمية البشرية المتكاملة فى إطار إيكولوجيا متكاملة، بيئية، اقتصادية، اجتماعية، ثقافية وروحية.
الجائحة أحدثت هزة فى النظام الاقتصادى والاجتماعى، وإدراك أننا جميعًا مدعوون إلى مرافقة مسيرة معقدة علينا مواجهتها كعائلة بشرية. ووجود مبادئ راسخة كمراجع، إلا أن هناك حاجة إلى إبداع شجاع كى لا تتحول الجائحة خاصة مع توقع بقائها مدة طويلة إلى مأساة رهيبة بل تفتح مساحات لارتداد بشرى وإيكولوجى تحتاج إليه البشرية.