x

متحف الحضارة: هوية مصر من عصر ما قبل التاريخ إلى الحاضر

الإثنين 31-08-2020 19:41 | كتب: مصباح قطب |
جانب من مقتنيات المتحف جانب من مقتنيات المتحف تصوير : آخرون

من الخسائر المادية والمعنوية التى نجمت عن كورونا تقف فى الصدارة خسارة تأجيل موعد افتتاح المتحف الكبير، الذى كان الرئيس السيسى قد أعلنه فى لقاء مع رجال أعمال أمريكيين، وهو ١٠ أكتوبر ٢٠٢٠ إلى موعد يحدد فيما بعد.

ويبدو أن تصاريف القدر تريد أن تقدم نوعًا من التعويض عن ذلك، مع إمكان انتهاء أعمال المتحف القومى للحضارة بكل آفاقه الثقافية والحضارية والعلمية والاجتماعية فى مطلع أكتوبر المقبل، ليكون جاهزًا للافتتاح فى الموعد الذى تراه قيادة الدولة.

وبمناسبة هذا الصرح العظيم قد يقول قائل: وكم ذا بمصر من متاحف لاتزال لا يعرف بما فيها حتى أولئك الذين يسكنون بجوارها أو حتى بعض ممن يعملون فيها ولا يتعدى دورها أن تكون مخازن حفظ عهدة للآثار ليس إلا، وحيث قيمة أى متحف تقاس بالحالة التى يخلقها فى دوائر المهتمين بنوعية معروضاته وكذا بالدوائر المحيطة به ودائرة العاملين فيه.. لكن زيارة أخيرة قامت بها «المصرى اليوم» إلى متحف الحضارة بالفسطاط يوم الثلاثاء الماضى توضح إيمان وزير السياحة والآثار الدكتور خالد عنانى، وقيادة المتحف الجديدة المتمثلة فى الدكتور أحمد غنيم، أستاذ الاقتصاد والخبير الدولى البارز والملحق الثقافى فى كل من ألمانيا والنمسا من قبل، أنه لن ينجح متحف لا يشعر بنبضه من يعملون به أو يحيطونه قبل السائحين والدارسين، لذا فإنه يتم العمل مع الجميع، من منطلق أن المتحف هو منارة تشبه مكتبة الإسكندرية لكن بمنظور إشعاعى مختلف، فالمتحف هو الوحيد من نوعه فى إفريقيا والشرق الأوسط، وهو يعرض التراثين المادى والمعنوى للحضارة المصرية فى تفاعلها مع الآخرين، من عصر ما قبل التاريخ وعبر كل العصور إلى الحاضر. وهو معنىّ بالمجتمع، وكمثال فهو يقدم خدمات التربية المتحفية للأطفال بأساليب جذابة، وبتحقيق متعة تواصلية ومعرفية وتراثية حية وفرصة ترفيهية للأسرة المصرية بما فى قاعاته من معروضات، فضلا عن وجوده مع بحيرة عين الصيرة التى أصبحت شكل تانى بعد إهمال جسيم دام عقودا، لتلتحم الطبيعة بالعروض التراثية وبالفن والسينما والمسرح وأماكن تقديم الطعام والمشروبات والجماليات المعمارية المنتشرة بكل خطوة داخل وخارج مبانى المتحف، كل ذلك على امتداد ٣٣ فدانا منها ٩٦٠٠٠ متر مبانى. يرد متحف الحضارة الحق إلى أهله، أى إلى أبناء الوطن صناع الحضارة، وهو بذلك يقدم نموذجًا لدور المتحف فى المجتمع كله والوسط المحيط. ويقينًا، ستتفاعل متاحف أخرى بالمحافظات والقاهرة ذاتها مع تجربته.

يضيف الدكتور أحمد غنيم أن توجيه الدكتور خالد العنانى وزير السياحة والآثار من اللحظة الأولى كان واضحًا، وهو لابد من تحقيق إنجاز يتكافأ مع القيمة الضخمة لهذا المتحف ورسالته والاهتمام الوطنى به، وأبرز مظاهره أن الرئيس هو رئيس مجلس أمناء هيئة المتحف، وأن اليونسكو داعم قوى للفكرة منذ ظهرت على يدى الوزير فاروق حسنى فى عام ٢٠٠٠، وأشار غنيم إلى أن العمل التنفيذى لم يشهد تقدمًا إلا فى الأعوام الأخيرة، وتم تتويج الجهد أوليا بالافتتاح الجزئى الذى قام به الوزير فى فبراير ٢٠١٧ بحضور إيرينا بوكوفا أمين عام اليونسكو وقتها، وستكون الفرحة الكبرى بالافتتاح الكلى قريبا.

وضع تصميمات المتحف الاستشارى المصرى الأستاذ الغزالى كسيبة، الذى فاز فى مسابقة عالمية عام ١٩٨٥، وكان من المقرر إقامة المتحف بمجمع دار الأوبرا فى البداية، لذا تطلب الأمر تعديلا فى التصميمات بعد أن تقرر نقله وتوافرت المساحة الأوسع الحالية فى الفسطاط.

قد يصعب على المرء بسبب طبيعة اللاند سكيب والمشهد غير المستوى أن يحيط بالمتحف بنظرة كلية ليعرف سماته التصميمية، لكن الزيارة الميدانية أوضحت أن من سيدخل القاعات سينخرط فى رؤية بصرية هادئة وعميقة للمعروضات الفريدة بسبب التصميم المهيب للقاعات والإضاءة وأسلوب العرض المبتكر.

التحفظ المعمارى الوحيد لمشاهد مثلى كان على بعض الواجهات الخارجية لبعض المبانى التى تظهر فيها بلوكات حجر على طبيعتها الغشيمة، وهذا النوع قد ينسجم ظاهريا مع ما هو تاريخى، وحيث الحجر ركن ركين فى العطاء الحضارى المصرى، لكنه قليل الجمال ويعمل كمصيدة للتراب فى مدينة كثيفة التراب كالقاهرة. أساس المتحف هو التعريف بالإنسان المصرى العادى فى صنعه وإبداعه للحياة كبنّاء ونسّاج ونحّات وخزاف ومصمم ومنفذ أعمدة وأسقف وتوابيت ومعابد ومنابر لمساجد أو كنائس، وآلات للغزل وصنع الفخار والصباغة.. إلخ، بحيث يعرف المشاهد كم أن إنتاج الحضارة كان عادة من عادات المصرى وتقاليده المعيشية.

وسيتم قريبا وفى مشهد غير مسبوق نقل ٢٠ مومياء ملكية بتوابيتها من متحف التحرير إلى متحف الحضارة، لتكون قمة الإثارة فى العرض ونقطة الجذب الأعظم للمصريين والأجانب.

وكما رأيت، فقد انتهت الأعمال فى القاعة المركزية التى هى قلب المتحف بنسبة ٩٠ بالمائة، وتسابق أجهزة الدولة من قوات مسلحة وأجهزة أمنية ووزارات وشركات الزمن لإنهاء كل العمليات الخاصة بالإعداد والتشطيب والتأمين والنقل والتجهيز. المتحف هو هيئة اقتصادية، وهذا يقتضى كما يقول الدكتور أحمد غنيم استغلال كل المعطيات الوفيرة للمتحف اقتصاديا على النحو الأمثل ودون إرهاق للأفراد أو الأسر المصريين، ويشير إلى أن تحديد أسعار التذاكر سيكون بقرار من الوزير وسيراعى فيه أننا متحف مهموم بجذب سكان الأحياء الشعبية القريبة، وباستقطاب زوار من كل ركن فى مصر، على أن يتم تعويض سعر التذكرة بتعظيم المنفعة من المحال وقاعات السينما والمسرح والمساحات المفتوحة للعروض الموسيقية والفنية وللفن التشكيلى أو الاجتماعات وإقامة أوسع شراكة مع القطاع الخاص والمجتمع المدنى الجادين ومع الجامعات والمدارس. وأضاف أن هناك عوائد أخرى من استغلال الطاقات العلمية والمعملية الهائلة والكوادر التى سافر منها نحو ٧٠ فى بعثات للخارج ومازلنا نواصل التسفير فى القيام بأعمال الترميم والصيانة والإصلاح والعلاج للمواد العضوية وغير العضوية للغير فى المحيط العربى أو خارجه، فضلا عن التدريب وخدمات المطبعة شديدة التطور التى تملكها. وقد انتهينا مؤخرا بالتعاون مع جهاز التنظيم والإدارة من وضع الهيكل الوظيفى لهيئة المتحف. يمتلك المتحف أيضًا قاعة زجاجية هرمية تعرض تاريخ عواصم مصر، وقاعة تبين تطور علاقة المصريين بالنيل، ويمكن من أعلى مكان به رؤية الهرم الأكبر. إن من المصادفات أن يعاد أيضا فى هذه الفترة إحياء مشروع «باب العزب» بالتعاون بين المجلس الأعلى للآثار والصندوق السيادى المصرى بعد طول تأخير، وهو يقع أدنى القلعة وفى دوار مسجدى السلطان حسن والرفاعى، أى فى واحدة من أغنى المناطق فى العالم بالتراث الإسلامى باذخ الجمال، وسيُكتب للدكتور خالد العنانى تلك الجرأة فى التصدى للمهمة لتكتمل جاهزية الدائرة الحضارية التى تشمل القاهرة الإسلامية والقلعة والكنيسة المعلقة، ومجمع الأديان، وجامع عمرو ومقابر المماليك وآثار الفسطاط وقباب الإمامين الشافعى والليثى وحديقة الفسطاط وسور مجرى العيون، ومشروع تطوير أرض المدابغ.. وليكون متحف الحضارة الشاهد الأخير على كل تلك الكنوز الحية والدال عليها. كان الوزير قد فاجأ الجميع باختيار الدكتور أحمد غنيم ليكون الرئيس التنفيذى لهيئة متحف الحضارة، وهو اقتصادى وليس أثريا ولا مهندسا، ما يدل أيضا على رؤية وشجاعة فى اتخاذ القرار السليم، فأحمد غنيم لا يختلف على شطارته أحد، وفق تعبير لوزير حالٍ. وحسب أكثر من مصدر من خبراء المتحف، فإن مهارات الفنيين المصريين تتفوق على نظرائهم فى أكثر الدول تقدما، لكن ما يميز تلك الدول هو النظام أو السيستم، وذلك هو الذى سيحتاج جهدا كبيرا من أحمد غنيم والوزير وكل الأطراف فى مصر، ليكون متحف الحضارة صاحب أعلى حضور فى الضمير العالمى والعربى والمصرى. إن الموقع بكل ما فيه وما حوله يختبر قدرتنا على جعل علاقتنا بالماضى نقطة ارتكاز للتواجد مجددا على ساحة الفعل الحضارى العالمى، ولا أقول التفوق. وقد تتطلب الدائرة التى تحدثت عنها إقامة فندق أو أكثر من عينة أربعة نجوم، فالسائح الثقافى الزائر يحتاج أكثر من أربعة أيام ليحيط ببعض تفاصيل كل هذا التراكم الحضارى. المشهد الأخير من قاعة العرض الخاصة بالحرف المصرية عبر العصور، حيث سيرى الزائر آثارًا واضحة للدماء التى سالت دفاعًا عن الحضارة، أو أسالها تحتمس الرابع موجودة على مقدمة عجلته الحربية، كأنها رسالة تأكيد بأن الدم المصرى منذور لبناء الحضارة والدفاع عنها، وهذا غاية ما يجب أو ما ينبغى لمتحف الحضارة توصيله للشعب.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية