«تشققات وصدوع بالعقار لقدمه، صوت اهتزاز شديد، إهمال في صيانته منذ 25 عامًا، أخيرًا مالك العقار سمح للمستأجرين بإجراء تعديلات بوحداته بغير ترخيص»، اقتباس من بيان النائب العام، بشأن التحقيق في حادث انهيار «عقار قصر النيل»، 16 أغسطس الجارى.
العقار المبنى عام 1867 ضمن القاهرة الخديوية دق ناقوس الخطر تجاه الإهمال، الذي طال المبانى التاريخية القديمة الكائنة بأماكن العتبة والموسكى وحارة اليهود وعمارات الأوقاف وشارع المعز وغيرها.
ما إن وطئت قدماى شارع عبدالعزيز بالعتبة حتى تكالب الباعة علىَّ، كل منهم يعرض بضاعته: «معاك تليفون صيانة، عاوز تشترى ثلاجة؟»، فيما يعرض آخرون «بدل رجالى» للبيع، ويلفتون النظر إلى أن بضاعتهم «داخل شقق بالعمارات».
حين تصعد العقارات تجدها «أكل عليها الدهر وشرب»، حسب تعبير أحد الباعة، لما سألناه عن سبب عدم تطويرها ضمن مشروع القاهرة التاريخية.
«كل محل في الشارع له مخزن هنا».. قالها شاب، في العقد الثالث من العمر، محاسب بأحد محال بيع الهواتف المحمولة، رفض ذكر اسمه، «خشية قطع عيشه»، مضيفًا: «هناك شركات أمن تدير هذه العقارات، وتتولى حراستها».
يلفت الشاب الثلاثينى إلى أن هناك عقارات تضم 150 مخزنًا على الأقل، وتتنوع البضائع المُخزَّنة داخلها ما بين أجهزة إلكترونية وملابس وأدوات تجميل.
قبل بدء الجولة الميدانية، كانت الشرطة تلاحق الباعة الجائلين، الذين يكتظ بهم ميدان العتبة، وكان الباعة يفرون ببضاعتهم تجاه شارع عبدالعزيز، وداخل العقارات يصعدون، وكنت أسأل: «أين يتوجهون ببضاعتهم؟»، ظنًا منى أنهم يهربون من الملاحقات.
أحد الباعة الفارين، وهو شاب من محافظة الفيوم، يؤكد أن كل زملائه يستأجرون حجرات لتخزين بضاعتهم.
الشارع الذي لا تهدأ حركة المارة به نهارًا أو ليلًا تنتشر به عناصر الأمن، ورغم معرفتهم بكل ما تحويه المخازن من أدوات سريعة الاشتعال، وعدم توافر وسائل حماية مدنية كافية لإطفاء الحرائق أو إنقاذ قاطنيه حال سقوط عقار لأى أسباب، فلا يهمهم سوى حفظ الأمن.
على بُعد خطوات قليلة يوجد قسم شرطة الموسكى، استُدعيت وزميلى المصور، وسُئلنا: «هل لديكما تصريح بالتصوير؟»، وحين أفصحت عن مهمتى الصحفية كانت الإجابة جاهزة: «آسفين لعدم استكمال المهمة».
أومأ ضابط شاب برأسه موافقًا على أن العقارات بما تحتويه تمثل خطرًا، متابعًا: «هنعمل إيه؟!».
مبنى الحماية المدنية بالقاهرة قريب للغاية، تحيط به سيارات الإطفاء، التي تقف على أهبة الاستعداد للانطلاق في أي لحظة.
تصادف ذهاب اللواء انتصار منصور، مدير قطاع الحماية المدنية بالقاهرة، إلى مهمة عمل.
العاملون بالقطاع أفادوا بأن منطقة شارع عبدالعزيز بها وسائل أمان، وخلال السنوات الماضية أُنشئت حنفيات الإطفاء إلى جوار العقارات، «أغلبها موجود تحت البلاطات، عند مداخل العمارات»، لافتين إلى استعداد القطاع للمخاطر، التي قد تشمل انهيار العقارات.
إلى جوار المسرح القومى، يقع مبنى حى الموسكى، المكتظ بالمواطنين، أصحاب الشكاوى، في الطابق الخامس يقع مكتب العميد ماجد السيد أحمد، رئيس الحى، بعد نحو 45 دقيقة لمحاولة لقائه: «الدكتور يمنعنى من التصريحات الصحفية»، في سخرية وتهكم قالها، ردًا على سؤاله بشأن الإجراءات التي يتخذها الحى لمواجهة المخالفات في العقارات، كونها أصبحت «قنبلة موقوتة»، مع عدم حصول مستأجرى الوحدات السكنية على تراخيص لتحويلها إلى مخازن.
التقينا بأحد الأهالى ممن تقدموا بشكاوى ضد عقارات منطقة العتبة إلى رئيس الحى، الذي أبرزت «الصفحة الرسمية لحى الموسكى»، على «فيسبوك»، مجهوداته أثناء مرافقته حملة شنّتها إدارتا المتابعة الميدانية والإشغالات بالحى، بالتعاون مع شرطة المرافق، لرفع الإشغالات والمخالفات بشارعى بورسعيد وعبدالعزيز.
«لا يستطيع الحى دخول عقارات شارع عبدالعزيز، ومداهمة المخازن غير المُرخَّصة، وكلها أجهزة إلكترونية».. يقول صاحب الشكوى إنه سيقدم هذه المخالفات أمام منظومة شكاوى مجلس الوزراء، مضيفًا: «حاولت تصوير الكوارث، لكن هذه العمارات عليها أبواب حديدية مغلقة معظم الوقت».
يشكو كثيرون عدم رفع الحى أنقاض العقارات المنهارة منذ سنوات، والتى «كانت مليئة بالمخازن، وطالها الإهمال».
لم يختلف الوضع كثيرًا في مناطق القاهرة التاريخية، حيث استوقفتنى شروخ عقارات آيلة للسقوط، تُسمى «عمارات الأوقاف»، في إشارة إلى ملكية وزارة الأوقاف لها. كانت المبانى مدهونة من الخارج، وداخلها التصدعات.. هكذا كان حالها.
يقول أحد العاملين إن دخول هذه المبانى أمر صعب، موضحًا: «التجار بيخافوا من أي حد غريب»، ولو حد سألهم عما تضمه المخازن ومخاطرها «يزداد الخوف أكثر».
وإن كانت ملكية هذه المبانى معروفة، إلا أن مبانى عقارات حارة اليهود لا يعرف أحد مالكيها.. بل يعرفون هويات مُلّاك الحجرات التي تُستأجر لتخزين البضائع، كل على حدة.
عقارات حى اليهود أغلبها مستأجرة لتخزين ملابس جاهزة وسجاد ومفروشات وأدوات منزلية، بخلاف ورش الجلود وتصنيع علب الصدف والذهب، والتى بدا عليها الإهمال جرّاء التخلى عن أعمال الترميم والصيانة الدورية.
داخل ورشته، كان منهمكًا في إذابة الجلود بالنار، محمد محمود، يؤكد أنه يستأجر الحجرة، وأنه حوّلها إلى ورشة، كون منطقة حارة اليهود كلها تجارية، «العمارات كلها مؤسَّسة لأجل الورش والمخازن».
يُحضر «محمود» طفاية حريق صغيرة الحجم، ويشير إلى توافر وسائل الأمان، لافتًا إلى أن هذه العقارات مراقَبة بالكاميرات، ولا يدخلها غريب، وتتولى حراستها شركة أمن.
يوضح صبحى يوسف، تاجر ملابس: «استأجر التجار تلك الغرف والشقق المخصصة للسكن في الأساس، وكل أصحاب المحلات لازم يكون عندهم مخازن قرب المحلات».
ولا يرى صفوت مكرم، صاحب ورشة تصنيع الذهب، خطورة من وجود ورشته وسط عقار يضم بضاعة ومواد سريعة الاشتعال، ولاسيما أن أصحاب مهنته تخَلُّوا عن استخدام النيران في إذابة المصوغات الذهبية، حيث حلت ماكينات الكهرباء محلها.
كان حسن فتحى، تاجر الملابس- وهو يشير إلى عدم وجود ضرر من تخزين البضائع بالعقارات التاريخية- يحكى عن مأساة حريق مخازن الألعاب النارية بالمنطقة، منذ سنوات، والذى استمر لساعات طويلة حتى تمكنت قوات الحماية المدنية من السيطرة عليه.
وهذه المخازن، بحسب «فتحى»، تمثل خطرًا بالغًا، وتحتاج حملات أمنية، وفيما عدا ذلك فلا داعى للانزعاج من تحويل العقارات بالمناطق التاريخية إلى مخازن.
وعن التصاريح اللازمة لتحويل الوحدات السكنية إلى مخازن، يرى «فتحى» أنه «ليس لها داعٍ، ونحن مستأجرون من أصحاب الشقق والغرف، والذين تركوها منذ زمن».
كانت حملات الحى تجوب المناطق، وأحيانًا ترفع إشغالات الطرق، وتتحفظ على بضاعة، لكنها لم تصل إلى تلك المخازن للتأكد من حصول مستأجريها على التصاريح اللازمة من عدمه.