الحصانة البرلمانية من أكثر الأشياء التى يثار حولها الحديث عند كل تعديل دستورى، وهى أيضاً من أكثر الأشياء التى أثارت جدلاً عقب ثورة يناير، حيث ظهرت مطالبات عديدة بإلغائها فى دستور 2012، ولكن هذا لم يحدث، فالنصوص الدستورية التى تعبر عن الحصانة البرلمانية فى مصر ثابتة فى دستور 1971 ودستور 2012، وأيضاً التعديلات الدستورية الأخيرة، حيث قسم الدستور المصرى الحصانة البرلمانية إلى نوعين: النوع الأول هو الحصانة الموضوعية، والتى تعنى عدم مسؤولية أعضاء البرلمان عن الأفكار والآراء التى يطرحونها فى مجلس الشعب، وهذا النوع من الحصانة يمكن أيضاً أن نطلق عليه اسم الحصانة السياسية، حيث تعمل هذه الحصانة على توفير الحماية اللازمة لعضو البرلمان، حتى يتمكن من أداء عمله فى مراقبة ومحاسبة الحكومة دون خوف من بطش الأجهزة التنفيذية، أو تعرضه للتهديد بأى إجراء قانونى قد يتخذ ضده بسبب أدائه مهامه البرلمانية، وهذا النوع من الحصانة حق أساسى لأعضاء مجلس الشعب، والجميع متفق على ضرورة وجوده.
أما النوع الثانى من الحصانة التى يكفلها الدستور لأعضاء مجلس الشعب، فهى الحصانة الإجرائية التى تعنى عدم جواز اتخاذ أى إجراءات جنائية ضد أى عضو من أعضاء البرلمان فى غير حالة التلبس بالجريمة إلا بعد إذن المجلس، ولهذا يطلق عليها «الحصانة الجنائية»، وهذا النوع من الحصانة يحمى النائب من تعسف السلطة التنفيذية ومما قد تلجأ إليه لحرمانه من أداء واجبه، فقد تلجأ السلطة التنفيذية إلى القبض على عضو الهيئة التشريعية أو التحقيق معه، ويكون غرضها من ذلك منعه من حضور جلسة مهمة من جلسات المجلس النيابى، أو يكون غرضها من ذلك التنكيل به جزاء إحراجها فى المجلس بسؤال أو استجواب أو غير ذلك.
وعلى الرغم من أن هذا النوع من الحصانة متعارف عليه ومعمول به فى كل دول العالم، سواء كانت العربية أو الأوروبية، فإنه، وللأسف، تم استغلاله فى مصر بشكل سيئ من جانب أعضاء مجلس الشعب، خاصة قبل ثورة يناير، حيث أصبح عضو مجلس الشعب فوق القانون، وأصبح المرشحون يتقاتلون لا من أجل أن يمثلوا أبناء دائرتهم فى البرلمان، بل من أجل الحصول على الحصانة الجنائية، التى تسمح لعضو مجلس الشعب بأن يفعل ما يريد دون محاسبة أو مراقبة، وهو الأمر الذى لا يمكن أن نقبل تكراره عقب ثورة يناير.
فقد سبق أن ناديت فى عام 2007 بضرورة إلغاء الحصانة الجنائية عن أعضاء مجلس الشعب، خاصة عقب اكتشاف العديد من الجرائم التى ارتكبها أعضاء مجلس الشعب المنتمين للحزب الوطنى المنحل، من حصولهم على الرشاوى والاختلاسات والمتاجرة وتهريب الممنوعات، وغيرها من العديد من الجرائم التى وقفت أمامها الأجهزة القانونية عاجزة بسبب الحصانة البرلمانية، وهذا ما يفسر قيام عضو مجلس الشعب بدفع مبالغ طائلة وقت الانتخابات لدخول المجلس، فهل هذه الأموال مقابل أن يكون عضوا فعالا ومؤثرا داخل المجلس ويقوم بتمثيل أهل دائرته فقط؟!!!
فمن المفترض أن الحصانة البرلمانية لا تهدف لتحقيق مصالح شخصية لنواب المجالس النيابية، وتهدف فى الأساس لتحقيق مصالح الشعب، وصحيح أن الحصانة الجنائية لنواب البرلمان ليست اختراعاً مصرياً، إلا أن التطبيق فى مصر - للأسف - أفرغ الحصانة من هدفها، وتحولت هى فى حد ذاتها إلى هدف، ولهذا فمن الضرورى أن يتم وضع قيود وضوابط للحصانة الجنائية، كأن تصبح مقصورة فقط على أعضاء البرلمان أثناء انعقاد جلسات مجلس الشعب، وأثناء ذهاب ورجوع العضو من الجلسات كما هو معمول به فى الدستور الأمريكى، أو أن تتم دراسة إلغائها تماماً حتى لا تكون ذريعة لأى عضو لارتكاب ما يشاء من أخطاء ضد القانون ويحتمى بعضويته داخل البرلمان.
وفى حالة تحقيق ذلك سوف تكون هناك فرصة للمرأة وأساتذة الجامعة والأكاديميين ولكل إنسان يحب بلده لخوض انتخابات مجلس الشعب حباً فيه وظنهم ورغبة منهم فى تقديم خدمة حقيقية لمصر، وبالتالى سوف نرى نواباً يحترمون ناخبيهم ويفكرون فى همومهم ومشكلاتهم ومصالحهم بدلاً من التفكير فى كيفية استعادة النقود التى أنفقوها أثناء الانتخابات، كما أن الساحة سوف تخلو من المبالغات التى نراها أثناء الحملات الانتخابية فى تمويل هذه الحملات وتشويه سمعة المرشحين والمرشحات، حيث أصبح واضحاً أمام كل عضو فى مجلس الشعب أن الحصانة البرلمانية ليست غاية، ولكنها وسيلة لتحقيق الأهداف الأساسية لعضو مجلس الشعب من مراقبة الأداء الحكومى ومحاسبة الحكومة والرئيس.
وبناءً على ذلك، فأنا أطالب لجنة التعديلات الدستورية بأن تعيد النظر فى شروط الترشح لعضوية مجلس الشعب، وتعمل على وضع ضوابط وآليات حازمة للدعاية والمصروفات فى الانتخابات القادمة، حتى نرى مجلس شعب قويا، يدافع عن الحقوق، ويعمل على بناء هذا البلد بشكل حقيقى، وأدعو إلى أن تكون الحصانة البرلمانية مشروطة ومحددة بحق العضو فى انتقاد الحكومة وإظهار الفساد وليس فى حمايته من أخطائه، حتى وإن تحقق ذلك من خلال إلغاء الحصانة الجنائية بشكل تام.