يتناول هذا المقال ظاهرة الدوجماطيقية التى تتخذ شكل الإرهاب فتصبح مهددة للديمقراطية. وأنا هنا أركز على حالة الفيلسوف سقراط فى القرن الخامس قبل الميلاد والتى تعتبر مثالًا لضحايا إرهاب الدوجماطيقية، وذلك بسبب عدم قدرة، أو عدم رغبة، الثقافة اليونانية على رفع التناقض بين الفلسفة والسياسة.
فى محاورة «الدفاع» لأفلاطون، وطبقًا لرواية ديوجينس اللائرتى، فإن نص الاتهام الموجه ضد سقراط كان على النحو الآتى: إن هذا الاتهام الذى أقسم على صحته ميلتوس ابن ميلتوس البتوهوسى ضد سقراط ابن صفرونسكوس هو كالآتى: إن سقراط مذنب لأنه ينكر الآلهة التى تعترف بها الدولة ويدعو إلى آلهة جديدة، ثم هو مذنب أيضًا لأنه يفسد الشباب. والإعدام هو العقوبة المطلوبة.
إن هذا الاتهام يتضمن ثلاث تهم ضد سقراط:
الأول أن سقراط لا يعترف بآلهة الدولة.
الثانى أنه يدعو إلى آلهة جديدة.
الثالث أنه يبشر بهذه الآلهة الجديدة للشباب، ومن ثم يفسدهم.
وإذا فحصنا الاتهامات الثلاثة، كل على حدة فيمكن معرفة كنه كل تهمة.
التهمة الأولى مزدوجة. إذ هى دينية سياسية ومرادفة للإلحاد، والتهمة الثانية محملة بالإلحاد مثل سابقتها وتشير إلى الاعتقاد فى مجال الدين، من جهة، والمعرفة فى مجال الفلسفة من جهة أخرى، والتهمة الثالثة ذات طبيعة اجتماعية سياسية.
ونخلص من ذلك إلى أن السمة السائدة فى هذه الاتهامات الثلاثة هى سياسية- فلسفية- دينية، وهى فى جملتها تشكل اتهامًا بالإلحاد.
وهنا يمكن إثارة السؤال الآتى: كيف أمكن للمجتمع الأثينى المشهور بديمقراطيته وفلسفته التى هى، فى صميمها، البحث فى المعرفة أن يتهم فيلسوفًا مثل سقراط بأنه ملحد بدعوى ممارسته الفلسفة؟
ومع ذلك يمكن رفع هذا التناقض فى ضوء أن اتهام الفلاسفة والعلماء بالإلحاد، وخصوصًا الفلاسفة الطبيعيين والشُّكّاك، مسألة طبيعية فى أثينا، حيث تم تخصيص محاكم لمحاكمة أمثال هؤلاء الملاحدة. وكانت هذه المحاكم تسمى (هيليالا).
والسؤال إذن: لماذا كانت فلسفة سقراط موضع اتهام فى الثقافة الأثينية؟ ومن هو المسؤول عن هذا الاتهام؟
جواب هذا السؤال يستلزم تحليل الاتهامات الثلاثة من أجل البحث عن جوهر هذا الاتهام. الاتهام الأول والأساسى الذى ينكر الآلهة التى تعترف بها الدولة مرتبط بالاتهام الثانى، وهو الدعوة لآلهة جديدة. وهذان الاتهامان مرتبطان ارتباطا وثيقا بالاتهام الثالث، وهو إفساد الشباب. ويمكن أن نضيف عن يقين أن الاتهام الثالث لازم لتدعيم الاتهامين الآخرين لأنه ليس ثمة قانون يجرم إفساد الشباب. وقد أصاب ميلتوس القول فى أن الاتهام الثالث ينطوى على دعوة سقراط الإلحادية. ويلزم من ذلك أن الاتهامين الأول والثانى هما الاتهامان الحقيقيان الموجهان ضد سقراط، والثالث إنما هو نتيجة مستخلصة من الاتهامين الآخرين. ومن هنا يمكن اختزال الاتهامات الثلاثة فى اتهام واحد وهو إنكار آلهة الدولة. وتأسيسًا على ذلك، يمكن بحث الطابع السياسى للآلهة من أجل بيان العلاقة بين الفلسفة والسياسة فى المجتمع الأثينى، وهذا من شأنه أن يفضى بنا إلى بحث مسألة الديمقراطية.
فى محاورة «الدفاع» لأفلاطون يوجه سقراط سؤالًا إلى ميلتوس ليستوضح منه كيف يفسد الشباب: بأى معنى تقول إننى أفسد الشباب؟ هل من الواضح طبقًا لعريضة الاتهام أننى أحث الشباب على عدم الاعتراف بآلهة الدولة من أجل الدعوة إلى آلهة جديدة؟ أليس معنى ذلك أننى بهذه الطريقة أفسد الشباب؟ وهنا يجيب ميلتوس بالإيجاب.
إن هذا الاتهام ينطوى على قضيتى الإيمان الدينى من جهة، والمعرفة الفلسفية من جهة أخرى. إن سقراط كان يعلم الشباب فن توضيح الأفكار من خلال الحوار الذى هو جوهر الفلسفة. ومن هذه الزاوية يمكن القول بأن سقراط كان يريد غرس الإبستمولوجيا، أى نظرية المعرفة، بالإضافة إلى قواعد المنطق فى عقل رجل الشارع، وهو بذلك يدفعه إلى أن يميز بين المعرفة الكاذبة (الظنية) التى يدعو إليها شعراء الدولة والمعرفة التى تأتى من الباطن، أى من العقل، والتى نصل إليها بممارسة فن الحوار الفلسفى. وعندما تدمج المعرفة فى النسق السياسى للدولة فإن سقراط يدخل الفلسفة فى السياسة، أو بالأدق فى النسق السياسى الأثينى الذى هو الديمقراطية.
والسؤال إذن: ما هو جوهر الديمقراطية؟
إن سقراط لا يعرف الديمقراطية وإنما نحن نستخلص هذا التعريف من طبيعة الاتهامين الأول والثانى. ينص الإتهام على الآتى: «إن سقراط يخطئ عندما يستهويه البحث فى الأشياء الموجودة على الأرض وفى السماء وعندما يجعل من الحجة الضعيفة حجة قوية، وعندما يعلم الآخرين كل هذه الأمور».
ونخلص من هذا الاتهام إلى أن الفلسفة فى جوهرها تدور على التفلسف حول الكون. ومن هذه الزاوية يقترب سقراط من الطبيعيين الأوائل الذين كانت مهمتهم استبعاد الأساطير من الظواهر الطبيعية.
أما فيما يختص بتعريف سقراط للديمقراطية فهو يرى أن الديمقراطية تشترط أن يكون التفكير الفلسفى هو الممارسة الطبيعية لكل البشر بغض النظر عن المرتبة الاجتماعية، وأن هذه هى الرسالة الإلهية، ومن هنا يعرف سقراط الإنسان بأنه حيوان متفلسف؛ ومن ثم تكون الديمقراطية فلسفية وليست سياسية، ومن ثم تكون السياسة تابعة للفلسفة وليس العكس.
وهذه الفكرة قد عبر عنها أفلاطون بفكرة «الفيلسوف الملك» التى هى ثمرة محاكمة سقراط، والتى كانت دليلا على العلاقة الحميمة بين الفلسفة والسياسة مع بيان أن السياسة وليدة الفلسفة وليس العكس.
ولهذا يمكن القول بأن الديمقراطية ليست مجرد حكومة يشاركها ممثلون عن الشعب؛ أى ديمقراطية برلمانية لأن مثل هذه الديمقراطية هى ديمقراطية مزيفة فى رأى سقراط لأن الجماهير التى تكون فى حالة ما قبل الفلسفة ليست فى وضع يمكنها من إصدار أحكام سياسية أو خيارات سياسية. إن الجماهير فى حاجة إلى أن تتدرب أولًا على التفلسف حتى يمكنها اتخاذ قرار باختيار معين، وكان هذا هو الذى يقوم به سقراط حتى يقود الجماهير إلى الديمقراطية الحقيقية مستعينًا فى ذلك بالفلسفة.
وهكذا يكون سقراط شهيدًا معبرًا عما أسماه بركليس «القوانين غير المكتوبة» فى المجتمع الأثينى.
إن محاكمة سقراط دليل واضح على انتصار الدوجماطيقية على الديمقراطية وعلى إدانة المجتمع الأثينى بسبب غياب حرية الفكر، أو على حد تعبير كانط «الحرية التى تسمح بالاستعمال العام للعقل»، والذى هو جوهر التنوير، وبدونه تكون الديمقراطية مجرد وهم.
وأنا بدورى اضم صوتى إلى صوتى بركليس قديمًا وكانط حديثًا منادية بضرورة بل حتمية توعية الجماهير بحقها الطبيعى فى التفلسف حول قضايا المجتمع المصيرية فى مجال الممارسة السياسية، ومن أهم تلك القضايا: المشاركة السياسية فى بناء مستقبل الدولة المصرية وتلك هى مسؤولية الأحزاب الجديدة التى تسعى حاليًا إلى خوض المعركة الانتخابية البرلمانية إذا كانت ترغب فى أن تكون أحزابًا سياسية حقيقية وليست مجرد واجهة. على تلك الأحزاب أن تدرك أنه بدون فكر فلسفى، وأقصد بذلك فكرة حاكمة تتلاحم معها الجماهير، لن تقوم لها قائمة، والدليل على ذلك أن حزب الوفد القديم تأسس على فكرة الوحدة الوطنية بين الهلال والصليب التى تلاحمت معها جماهير الشعب والتى عليها تأسس الحزب. أما البرامج السياسية فهى مجرد ترجمة مادية للفكرة الحاكمة للحزب فى تلاحمها مع الجماهير.
وفى تقديرى أن الفكرة الحاكمة للأحزاب الجديدة ينبغى أن تتأسس على رؤية مستقبلية تقتلع جذور الدوجماطيقية من المجتمع المصرى ومؤسساته من أجل القضاء على فكر الإخوان الإرهابى، وتزرع مكانها فكرًا علمانيًّا مستنيرًا يتجاوز التناقض بين الفلسفة والسياسة.
وخلاصة القول أن الأحزاب المصرية الجديدة فى حاجة إلى سقراط مصرى لكى يدرب الجماهير على التفلسف فى أمور الحياة والسياسة. وإذا لم يحدث ذلك فستظل الديمقراطية وهمًا، ويظل شبح الدوجماطيقية المتمثلة فى فكر وتنظيم الإخوان المسلمين يخيم على مستقبل الدولة المصرية.