عندما تبدأ أمة فى التراجع، يكون الوقع بطيئا فى بعض الأحيان ويتسارع فى أحيان أخرى، لكن مؤشراته تظل واضحة لكل من يلتفت إليها. والولايات المتحدة تمر بمثل ذلك الانحسار داخليا وفى المكانة الدولية ومؤشراته لا تخطئها العين.
فهل كان لأحد، قبل سنوات قليلة فقط، أن يتصور أن يعامل الاتحاد الأوروبى الولايات المتحدة كما اعتاد أن يعامل دول العالم الثالث؟!، وهل كان لأحد أن يتوقع أن يعتذر حلفاء أمريكا عن زيارتها هذه الأيام نظرا لتفشى فيروس كورونا بها؟، بل هل كان لأحد أن يتصور أن الولايات المتحدة، التى طالما افتخرت بأن جامعاتها هى الوجهة الأولى لأكثر الطلاب نبوغا فى العالم، ستأمر يوما وبشكل مفاجئ برحيل الطلاب الأجانب قبل استكمال دراستهم؟!.
فعلى صعيد الداخل الأمريكى، فلعل أهم مؤشرات الانحسار الراهنة هى ذلك الفشل فى محاصرة فيروس كورونا، فى الدولة الأكثر تقدما، وتصاعد حدته كل شهر. وقد لعب خطاب إدارة ترامب الرافض للاستماع للعلماء دورا مهما فى الاستهانة، أول الأمر، بالفيروس إلى أن تفشى بشكل خرج لاحقا عن السيطرة.
وقد نتج عن ذلك الفشل أن اتخذ الاتحاد الأوروبى قرارا منفردا بحظر دخول الأمريكيين أراضيه، خوفا من تفشى المرض مجددا فى دوله. ومثل ذلك الحظر أمر لم يعتده الأمريكيون. فالمواطن الأمريكى يشعر دوما بالتميز بامتلاكه جواز سفر بلاده. وهو تميز لم يكن فقط يتعلق بدخول هذه الدولة أو تلك، وإنما كان يتعلق أيضا بالمعاملة التفضيلية حول العالم. أما كندا، التى اتفقت مع الولايات المتحدة قبل شهور على إغلاق حدودهما المشتركة أمام السفر غير الضرورى لمواطنيهم، فقد كشفت استطلاعات الرأى بها عن أن 81% من الكنديين يريدون أن تظل الحدود مع الولايات المتحدة مغلقة لأجل غير مسمى بسبب تفشى المرض بها. وتلك نسبة مذهلة لأن الكنديين يدركون جيدا أن بلادهم تعتمد بشكل كبير على الحدود المفتوحة مع الولايات المتحدة. وقد صدر عن جاستن ترودو، رئيس الوزراء الكندى، تصريحا لافتا قال فيه إن بلاده نجحت فى «السيطرة على الفيروس بشكل أفضل من الكثير من حلفائنا، بما فى ذلك جارتنا»، أى أن بلاده تفوقت حتى على الدولة العظمى!، ولأنه على ما يبدو لا يرغب فى الخضوع للعزل بعد عودته، اعتذر ترودو، بحجة تضارب المواعيد، عن زيارة البيت الأبيض الذى وجه له الدعوة للزيارة!.
لكن لعل من أهم المؤشرات الداخلية أيضا على تراجع الولايات المتحدة هو ذلك القرار الذى اتخذته إدارة ترامب بإجبار الطلاب الأجانب الذين يدرسون فى جامعاتها على العودة لبلادهم إذا كانت الدراسة فى جامعاتهم كلها عن بعد. والقرار الذى اتخذ لأسباب بعضها داخلى أحدث فوضى داخل أمريكا، ولاقى انتقادات واسعة خارجها. فرحيل أولئك الطلاب معناه فقدان مئات الآلاف من الوظائف الموجودة بأمريكا بسبب أولئك الطلاب الوافدين فضلا عن الرواج الذى يحدثه وجودهم فى سوق العقارات مثلا وغيره من المجالات. وترحيل أولئك الطلاب قد يعنى تعريض مستقبلهم للخطر. غير أن الأهم من هذا وذاك هو ما يحمله القرار من مغزى. فأمريكا كانت تدرك دوما قيمة العقول التى تأتى لها للدراسة ثم تتخذ قرارا بالبقاء، فتسهم بشكل جبار فى التقدم العلمى والتكنولوجى فيها، حتى إنها كانت متهمة دوما بسرقة العقول. أما اليوم، فقد أدى صعود «القومية البيضاء» المعادية للأجانب، لأن يسود ضيق الأفق، ومعاداة العلم. وتلك، فى تقديرى، أخطر الآفات التى تعجل بتراجع الأمم.