دخلَتْ، للأسف، كلمة «تحرش» في قاموسنا اللغوى اليومى بعد سلسلة من التحرشات التي أصبحت حديث المجتمع الواقعى والافتراضى على حدٍ سواء، والتحرش ليس بجديد على مجتمعنا، ولكنه تطور إلى ما هو عليه الآن. ففى الستينيات والسبعينيات كانت المعاكسات اللفظية يطلقها الشباب على الفتيات على نواصى الشوارع ومداخل السينمات، ولم تكن تتعدى كلمات الإطراء والغزل «يا جميل.. يا حلو.. يا أرض احفظى ما عليكى.. وإلى آخره»، وكانت الفتيات يشعرن بأنهن مرغوبات وإن كن يتمنعن، وإلا شعرن أنهن دميمات، وكانت في ذلك الوقت موضة الفساتين والجيبات القصيرة منتشرة، ورغم ذلك كان من العيب أن يلمسهن أحد، وإذا حصل يأتى الشاويش وعلى الكراكون.
أما في الثمانينيات وما بعدها، فقد تطور الأمر من معاكسات ساذجة إلى تحرشات باللمس في الحدائق والمواصلات وأماكن العمل.. ولسخرية القدر كان يحصل ذلك في أوج المد الدينى الذي شاهدته تلك الحقبة، وظهور مشايخ الصفوة ومستغلى الفقراء والبسطاء، وبروز مظاهر التدين في الملبس والكلام والتصرفات.. إلى آخر هذه المظاهر التي قلصت الدين في مجرد طقوس خاوية من أي معنى روحى عميق وأى علاقة بين الإنسان وربه. ونتذكر حالات التحرش الجماعى، خاصة في شم النسيم والأعياد، مما استدعى تخصيص دوريات من ضابطات شرطة خاصة ببلاغات التحرش، فهى ليست مجرد ظاهرة فردية، بل جماعية، ومنتشرة بالجامعات والشوارع والطرقات وأماكن العمل. فظاهرة التحرش ليست بسبب ملابس الفتيات- كما يريد بعض الرجال المتكلمين في الدين المهمومين بالجزء السفلى للرجال والنساء إيهامنا إياه- بل من عقول وقلوب بلا ضمير. وخيرًا ما فعلت مشيخة الأزهر من التحذير بأن الصمت يهدد المجتمع، ويشجع على انتهاك الأعراض وتصحيح ما يفسده من يتحدثون باسم الدين بإلقاء اللوم على المرأة ويبرر للمجرم الحقيقى أفعاله.
رغم تعدد التعريفات للتحرش الجنسى، يظل التعريف الأكثر شيوعًا هو «الاعتداء الجنسى» على إنسان آخر (رجل وامرأة.. وهنا لا أتحدث عن الأطفال، لأنه ليس حديثنا) دون رضا منه، مستغلًا العنف والتهديد والسلطة المادية أو المعنوية لإشباع غريزة المعتدى، مثل الحالة التي تمت منذ عدة أشهر لراقصة وبطلة على الجليد في فرنسا، حيث استغلها مدربها الذي وثقت به، واضطرت هيئة الرقص على الجليد للاستقالة.
التحرش وباء متفشٍّ في كل العالم، وهناك من يبرر أن في البلاد العربية كبتًا جنسيًا، ولكن أيضًا في العالم الغربى والآسيوى، الذي يتمتع بالحرية الكاملة من حيث المساكنة وفتيات الليل المرخصات والديسكوهات.. ناهيك عن الأفلام البورنو وكثير من ذلك الذي لا أريد أن أسترسل فيه، فهى أيضًا تشتهر بحالات تحرش، بل تصدر من رجال دولة وبرلمانيين ومخرجين ورجال دين وشخصيات عامة لهم وزنهم في المجتمع المحلى والدولى.. وهنا نشأت حركة ME TOO لتشجيع الفتيات على الإفصاح عن المعتدين عليهن، وتسببت هذه الحركة في ضخ كثير من الجرأة، وكشف عديد من الممارسات غير الأخلاقية، وتقديم المعتدين إلى المحاكم وإدخالهم السجن.
علينا أن نعترف بأن في مجتمعنا خطابًا عائليًا غير متوازن، فالخطاب المقدم للفتيات عن الخطاب المقدم للأولاد الذي يعظّم الذكورية على حساب كرامة الإناث ينتج لنا فتيات خاضعات وخانعات وخائفات، كما علينا أن نعترف بأن هناك خطابًا دينيًا في القرن الـ 21 غير متوازن، فالخطاب المقدم للمرأة والخطاب الدينى المقدم للرجل في حال التعرض لظلم أو عدوان فإن المرأة مطالبة بالصبر والاحتساب عند الله وانتظار الآخرة، بينما الرجل مطالب برد الظلم.
قطعًا، هناك دراسات من الهيئات المتخصصة حول هذا الموضوع، لذا أدعو علماء النفس والاجتماع والتربية وغيرهم لوضع الخطوات اللازمة، ورفع الوعى العام لمحاربة تلك الظاهرة قبل أن تتفشى أكثر من ذلك.
فالكرامة قيمة إنسانية عليا، هي جوهر نظرة كل دين للإنسان ونظرة كل إنسان للإنسان الآخر، ومعناها واحد وصريح، حيث يتساوى فيه الجميع، رجالًا ونساءً، بغض النظر عن دينهم أو ثقافتهم أو موطنهم أو مهنتهم، فتكريم الإنسان بوصفه إنسانًا واجب دينى وأخلاقى ووطنى.