في سلسة موضوعات يشرح الخبير الدولي، محمد هلال، أزمة سد النهضة منذ بدايتها، موضحًا أهمية المفاوضات التي دخلتها الدول الثلاث مصر، السودان، إثيوبيا، لحل الأمر.
الموضوعات يقدمها الخبير كونه محامي درس العديد من الاتفاقيات كأكاديمي، وتنشرها «المصري اليوم» على 3 أجزاء متعاقبة.. هذا الجزء الأول منها.
منذ قرابة عقد من الزمان، انخرطت مصر وإثيوبيا والسودان في مفاوضات حول سد النهضة الإثيوبي. كان الغرض الأساسي من هذه المفاوضات هو إبرام معاهدة تحكم ملء خزان السد تشغيله.
وعلى الرغم من أنني تفاوضت على العديد من المعاهدات كمحامي حكومي ودرست العديد من الاتفاقيات كأكاديمي، إلا أن المفاوضات حول سد النهضة كانت مفيدة وغنية بشكل خاص. لم أشهد قط في سنوات خدمتي عملية تفاوض كانت فيها الجوانب التقنية والعلمية متشابكة، وكانت المخاطر السياسية عالية، وكانت اليد الطولى للتاريخ مؤثرة على مسار عملية التفاوض.
في هذا المقال المكون من ثلاثة أجزاء، سأشارك بأفكاري حول هذه المفاوضات. يقدم الجزء الأول لمحة عامة عن المفاوضات التي استمرت لعقد حول سد النهضة. ويركز الجزء الثاني على الجولات النهائية للمفاوضات التي حضرتها الولايات المتحدة والبنك الدولي، وأدت لصياغة اتفاقية نهائية بشأن سد النهضة، بتسهيلات من الولايات المتحدة، وتدخل فني من البنك الدولي، وهي الاتفاقية التي وقعتها مصر بالاحرف الأولى، ورفضتها إثيوبيا. أخيرًا، يناقش الجزء الثالث الإطار القانوني الذي يحكم هذه المحادثات مع التركيز بشكل خاص على اتفاقية 2015 بشأن إعلان المبادئ. وغني عن القول إن لا شيء من هذا المقال يجب أن ينسب إلى الحكومة المصرية. هذه تأملاتي الشخصية.
قبل تتبع مسار مفاوضات سد النهضة السابقة، يجب التمهيد بهذا التعليق:
بينما أفكر في حقيقة تعقيدات مفاوضات سد النهضة، يتابني إحساس بغصة في القلب، يتكشف أمامنا ليصبح «مأساة خيبة الأمل» (والعبارة هنا لوودرو ويلسون، وليست من ابتداعي). فلو كانت هذه المحادثات تسترشد بالعلم والقانون، لكنا توصلنا إلى اتفاق قبل سنوات. والواقع أن الطريق نحو حل مربح للجانبين واضح. فسد النهضة هو مشروع للطاقة الكهرومائية. وهو مصمم للمساهمة في خطط إثيوبيا التنموية وتخفيف حدة الفقر. ومصر، من ناحية أخرى، أمة فقيرة م حيث المياه ويبلغ عدد سكانها 100 مليون نسمة وتعتمد كليا على النيل. فلو كانت المفاوضات تهدف حصريًا إلى تشغيل سد النهضة لتمكين إثيوبيا من توليد الطاقة الكهرومائية بشكل سريع ومستدام، دون الإضرار بحقوق دولتي المصب، فعندئذٍ كان يمكن التوصل إلى اتفاق. في الواقع، كما أناقش في الجزء الثاني، فإن اتفاقية عادلة ومتوازنة بوساطة جهات محايدة مطروحة بالفعل على الطاولة.
المأساة، مع ذلك، هي أن المفاوضات لم تكن تسترشد في المقام الأول بالعلم أو القانون.
أعاقت الاضطرابات السياسية المفاوضات (شهدت البلدان الثلاثة شكلاً ما من أشكال تغيير النظام خلال السنوات العشر الماضية)، بالاضافة إلى اعتبارات سياسية محلية وانتخابات، خاصة في إثيوبيا التي تجري فيها انتخابات هذا العام، ما جعل إثارة العامة بمشاعر العظمة أكثر ملائمة مع الوقت الذي تمر بهذه الدول، وجعل الوصول لتسوية أمرا أكثر صعوبة، ناهيك عن شعور (تخيلي بالكامل) بالظلم التاريخي، وشعور (وهمي سائد) بالاستحقاق، وتصورات شعبية ومفاهيم خاطئة، وأساطير ثقافية وحتى فولكلورية، وكل هذه العناصر اجتمعت لتجعل المفاوضات مباراة محصلتها صفر. علاوة على ذلك، على الرغم من أن المحادثات ركزت على سد النهضة، أصبح من الواضح، على الجانب الإثيوبي، أن سد النهضة لم يكن فقط سدًا للطاقة الكهرومائية، ولكنه أيضًا أداة لإنشاء وتقنين حق غير منظم في استغلال ثروات النيل الأزرق وبناء مشاريع على منابع النيل.
أنا لست مثاليًا. عند الدخول في المفاوضات، أدرك الجميع أن هذه العوامل ستتجاذب الأطراف وتؤثر على مواقفهم. ومع ذلك، كان لدي أمل، خاصة في جانب إثيوبيا، أن يكون لديه إرادة سياسية أكبر للتوصل إلى اتفاق واستعداد أكبر لتبني موقف تعاوني. بدلاً من ذلك، ما رأيناه في مصر هو أحادية لا هوادة فيها. فقد بدأ بناء السد دون إبلاغ دولتي المصب أو استشارتهما؛ لم يتم إجراء تقييمات الأثر البيئي والدراسات الاجتماعية والاقتصادية التي يتطلبها القانون الدولي لتحديد آثار السد العابرة للحدود؛ لا توجد تدابير للتخفيف من الآثار السلبية للسد؛ لا توجد ضمانات بأن السد آمن هيكليًا؛ والآن، من المتوقع أن يبدأ ملء خزان سد النهضة في غضون 100 يوم في غياب قواعد من المفترض الاتفاق عليها بشأن ملء وتشغيل السد.
على هذا النحو، نحن قريبون جدًا، رغم بعدنا عن التوصل لاتفاق. هناك اتفاق على الطاولة وفي متناول اليد، لكن الإرادة السياسية لاغتنام هذه الفرصة غير موجودة. ومع ذلك، ما زلت متفائلًا بإمكانية حدوث اختراق. ومع ذلك، قبل بحث ما قد ينبيء به المستقبل، دعنا نعيد النظر بإيجاز في السنوات العشر الماضية من المفاوضات حول سد النهضة.
بناء السد في الظلام
كان سد النهضة سر متكتم عليه بشدة. وبصرف النظر عن التسريبات العرضية عنه في وسائل الإعلام المحلية، لم يكن لدى دولتي المصب تقريبًا أي معرفة بخطط إثيوبيا لبناء سد النهضة أو مواصفات الحجم والتصميم لهذا السد.
وعلى الرغم من أنه كان من المفهوم أن إثيوبيا كانت تبحث، منذ عدة عقود، بناء منشأة للطاقة الكهرومائية في مكان ما بالقرب من المحيطة بسد النهضة حاليا، إلا أنه سرعان ما أصبح واضحًا، بمجرد توافر المزيد من المعلومات، أن حجم هذا السد سيكون أضعافا مضاعفة لأي تصور سابق عن السد الإثيوبي. في عام 1964، اقترح مكتب الاستصلاح الأمريكي بناء سد في تلك المنطقة يمكنه تخزين ما بين 11-16 مليار متر مكعب من المياه. وعلى نفس النهج، في عام 2007، أصدر المكتب الفني الإقليمي للنيل الشرقي (ENTRO)، الذي يعد جزءًا من مبادرة حوض النيل، تقريرًا عن جدوى بناء ما أسمته إثيوبيا «مشروع الطاقة الكهرومائية على الحدود»، والذي تم تصميمه لتخزين ما يتجاوز 14 مليار متر مكعب من الماء.
ومع ذلك، فإن سد النهضة سعة تخزينه أكبر بكثير، وتصل سعته في الحد الأقصى إلى 74 مليار متر مكعب من المياه، وقدرة على إنتاج الطاقة تبلغ 6450 ميجاوات، وبذلك يصبح سد النهضة أكبر سد للطاقة الكهرومائية في إفريقيا. ولوضع الأمور في نصابها، من حيث إنتاج الطاقة الكهرومائية، فإن سد النهضة أكبر من ضعف سدي أمريكا الأكبر والأكثر شهرة، وهما سد هوفر، وسد روبرت موزس بالقرب من شلالات نياجرا. فقدرة تخزين المياه لهما مثيرة للإعجاب أيضًا. بسعة قصوى تبلغ 74 مليار متر مكعب من المياه، سيخزن سد النهضة 150 ٪ من متوسط التدفق السنوي للنيل الأزرق، الذي يبلغ 49 مليار متر مكعب، وسيكون خزانه أكبر من بحيرة ميد، أكبر بحيرة من صنع الإنسان في أمريكا.
جرس إنذار: تقرير لجنة الخبراء الدولية (IPoE)
ردا على المخاوف التي أعربت عنها دولتي المصب من عدم اتاحة معلومات لها حول سد النهضة، وافقت إثيوبيا على إنشاء لجنة تتكون من عشرة خبراء (اثنان من كل من البلدان الثلاثة، وأربعة خبراء محايدين). وكانت اللجنة مفوضة لـ«مراجعة مستندات تصميم سد النهضة، وتوفير مشاركة للمعلومات بشفافية وطلب شرح الفوائد والتكاليف على البلدان الثلاثة والتأثيرات إن وجدت على دولتي المصب». وبعد عام كامل، اجتمعت فيه ست مرات، وأجرت أربع زيارات ميدانية إلى سد النهضة، أصدرت اللجنة تقريرها في 31 مايو 2013. وكانت النتائج الموثقة في هذا التقرير مثيرة للقلق الشديد.
في البداية، وصف تقرير اللجنة «دراسة محاكاة النظم الهيدرولوجية وملء الخزان» التي أجريت لتقييم التأثيرات على دولتي المصب بسبب سد النهضة بأنها «أساسية للغاية، وليست بعد على مستوى من التفصيل والتطور والموثوقية التي تلائم تطور بهذا الحجم والأهمية وبهذا التأثير الإقليمي». كما سلط التقرير الضوء على أن «قواعد التشغيل لا تلائم السدود/ منشآت الطاقة الكهرومائية القائمة، كما تم توفير القليل من التفاصيل حول عملية التشغيل المخطط لها» لسد النهضة. ولذلك، أوصى تقرير لجنة الخبراء الدولية بإجراء «تقييم أكثر شمولاً لتأثيرات سد النهضة على دولتي المصب، استناداً إلى نموذج محاكاة متطور لموارد المياه/ والنظام الهيدرولوجي».
وبالمثل، اعتبر تقييم الأثر البيئي العابر للحدود «عامًا جدًا بحيث لا يوفر أي أساس فعال لتقييم الأثر الكمي». وبالفعل، عبر تقرير لجنة الخبراء الدولية عن قلقه من أن «أهم قضية تتعلق بجودة المياه، والتي تتعلق بانخفاض الأكسجين المذاب بسبب انحلال التربة والنباتات المغمورة، لم يتم تناولها بالدراسة بشكل مناسب». كما أشار التقرير إلى «التأثير السلبي المحتمل على ركود الزراعة والغابات النهرية وكذلك التأثير على التجديد الموسمي للمياه الجوفية على طول النيل الأزرق والنيل الرئيسي لم يتم تناوله بالدراسة». علاوة على ذلك، وجد تقرير لجنة الخبراء الدولية أنه «لم يتم إجراء تقييم اقتصادي لمشروع سد النهضة من منظور إقليمي يأخذ في الاعتبار فوائد وتكاليف المشروع في دولتي المصب». ولذلك، أوصى التقرير «بإجراء تقييم الأثر العابر للحدود لمناطق التأثر في دولتي المصب داخل السودان ومصر.»
كان الأمر المثير للقلق أيضًا هو حقيقة أن تقرير لجنة الخبراء الدولية وجد عيوبًا خطيرة في مواصفات تصميم سد النهضة، مما يلقي بظلال من الشك على السلامة الهيكلية للسد واستقراره. وأشار التقرير إلى أنه «قد تكون هناك حاجة إلى تدابير هيكلية لتحقيق الاستقرار في الأساس لتحقيق السلامة المطلوبة ضد الانزلاق». عكست هذه التوصية حقيقة أن تقرير لجنة الخبراء الدولية وجد أن «معايير قوة القص المستخدمة في التحليل تعتبر متفائلة للغاية»، ودعت إلى «مزيد من المباديء المحافظة» في «قوة القص التصميمية» لضمان الاستقرار الهيكلي للسد «بالنظر إلى حجم وأهمية المشروع».
مطاردة الوهم: تنفيذ الدراسات التي أوصى بها تقرير لجنة الخبراء الدولية
لمدة خمس سنوات بعد صدور تقرير لجنة الخبراء الدولية، انخرطت الدول الثلاث في مفاوضات لا نهاية لها، وغالباً بيزنطية، حول استكمال الدراسات الموصى بها. وخلال تلك الفترة، تم عقد عشرات الاجتماعات على كل مستوى بين الحكومات وفي كل شكل يمكن تخيله. وعُقدت عدة مؤتمرات قمة لرؤساء الدول والحكومات، وعُقدت اجتماعات ثلاثية لا حصر لها بين وزراء الخارجية أو وزراء شؤون المياه. كما عقدت محادثات سداسية ضمت وزراء الخارجية ووزراء المياه للدول الثلاث. كما كانت هناك جولتان من المحادثات التساعية التي انضم فيها مديرو أجهزة المخابرات إلى وزراء الخارجية ووزراء المياه.
وطوال تلك الفترة، عقدت مناقشات مستمرة على مستوى الخبراء في اللجنة الوطنية الثلاثية التي كانت تشرف على الدراسات التي أوصى بها تقرير لجنة الخبراء الدولية، وتم تعيين استشاري دولي، الشركة الفرنسية BRLi، لإجراء هذه الدراسات. وقد تم إبرام اتفاقية عام 2015 وعي إعلان المبادئ (DoP)، لتوجيه هذه العملية. وكما أناقش بالتفصيل في الجزء الثالث من هذا المقال، اشترط إعلان المباديء أن يتم استخدام الدراسات الموصى بها من قبل تقرير لجنة الخبراء الدولية للاتفاق على القواعد التي تحكم ملء وتشغيل سد النهضة وأن العملية برمتها يجب أن تكتمل في غضون 15 شهرًا.
لسوء الحظ، فإن هذه الجهود التي بذلها الرؤساء، ورؤساء الوزراء، والوزراء، وعلماء المياه، والمهندسون، والاستشاري الفرنسي، باءت بالفشل. كان الخلاف الإجرائي والخلاف الجوهري الذي نسفت جهود إجراء الدراسات التي أوصى بها تقرير لجنة الخبراء الدولية عبارة خط واحد شديد الأهمية.
كان هذا هو «سيناريو خط الأساس»، وهو الحالة المرجعية التي سيقاس بها تأثير السد. وطوال هذه العملية، رفضت إثيوبيا تضمين الاستخدامات الحالية للمياه في دولتي المصب كجزء من سيناريو خط الأساس. بينما لا يمكنني التكلم نيابة عن زملائي الإثيوبيين، فإن افتراضي هو أنه بالنسبة لإثيوبيا، كان القلق هو أن اعتماد سيناريو خط أساس يتضمن الاستخدامات الحالية، سيكون بمثابة الاعتراف باتفاقيات تقاسم المياه السابقة التي ليست إثيوبيا طرفاً فيها. ومشكلة هذا الموقف رباعية:
سياسيا، كان هذا غير مستساغ تماما. كانت إثيوبيا تسعى إلى إنشاء صفحة بيضاء من الناحية الهيدرولوجية من خلال إعادة تعيين الواقع وإلغاء الاستخدامات الحالية لدولتي المصب.
علميا، كان الأمر ببساطة غير منطقي. كانت إثيوبيا تقترح بشكل أساسي قياس تأثير سد النهضة من دون أدوات لقياسه. كيف يمكن تحديد التأثيرات الهيدرولوجية والبيئية لسد النهضة دون أخذ عوامل متغيرة في الاعتبار مثل التدفق الطبيعي للنيل الأزرق، والسجل التاريخي والمستويات الحالية لتصريف النهر، وحالة نقاط الضعف في النظام البيئي على ضفاف النهر، وحالة طبقات المياه الجوفية المتصلة بنهر النيل، إلخ. علاوة على ذلك، لا يمكن حساب التأثيرات الاجتماعية والاقتصادية دون النظر في عمليات السحب والاستخدام لدولتي المصب، والمشاريع الحالية وأعمال المياه، ونسب الاعتماد على المياه، والكثافة السكانية والتوقعات الديموغرافية، ومستويات إنتاج الطاقة الكهرومائية، وما إلى ذلك.
واقعيا، لم تقم مصر، خلال عشر سنوات من المفاوضات، بتجديد اتفاقيات سابقة لتقاسم المياه، كما أنها لم تسعى لحصول على أي اعتراف من إثيوبيا بالمعاهدات التي ليست طرفاً فيها. لقد فهمت مصر دائمًا أن إثيوبيا لن تبدأ من هذه النقطة. وبدلاً من ذلك، كما هو موضح في إعلان المبادئ الموقع عام 2015، والذي أناقشه في الجزء الثالث من المقال، سعت مصر للتوصل إلى اتفاق بشأن سد النهضة فقط على أساس المبادئ الراسخة للقانون الدولي، دون التأثير أو المساس بالحقوق والالتزامات التشاطئية الحالية أو المستقبلية للاطراف.
قانونيا، فإن المبدأين الأساسيين لقانون الاستخدامات غير الملاحية للمجاري المائية الدولية، وهما: مبدأ الانتفاع المنصف والمعقول والالتزام بعدم التسبب في ضرر ذي شأن، غير قابلين للتطبيق بدون سيناريو خط أساس يستند إلى الاستخدامات الحالية. إن قياس الإنصاف، وتحديد المعقولية، ومنع الضرر، هي أمور مستحيلة ببساطة دون النظر في وتحديد الاستخدامات الحالية. إن إجراء الموازنة المضبوطة بدقة والمطلوبة لتحديد الأسهم التعويضية للأطراف ذات الصلة غير قابل للإلغاء ما لم يتم تحديد تكلفة الضرر الذي لحق بالاستخدامات الحالية ومقارنته بالمردود المحتمل من المشاريع المخطط لها.
والنتيجة النهائية هي أن الدراسات التي أوصى بها تقرير لجنة الخبراء الدولية لم يتم اجراؤها قط. يكاد يكون بناء أحد أكبر سدود الطاقة الكهرومائية في العالم مكتملاً تقريبًا دون وجود سجل شامل لآثاره المحتملة. لا يشكل هذا انتهاكًا للقانون الدولي من قبل مالك السد والمشغل فحسب، بل هو أيضًا خرق لمسؤوليتنا الجماعية لحماية والحفاظ على الوديعة المقدسة التي هي نهر النيل ونظامه البيئي النهري لصالح الأجيال القادمة.
دخول الهيدرولوجيين: المجموعة الوطنية المستقلة للبحث العلمي (NISRG)
مع استمرار محاولات إجراء الدراسات التي أوصى بها تقرير لجنة الخبراء الدولية، تم إنشاء NISRG في منتصف 2018 لصياغة الطرائق التقنية لملء وتشغيل سد النهضة. كانت هذه مجموعة مكونة من 15 عالما هيدرولوجيا مستقلا (اسميا) من البلدان الثلاثة، وعقدوا خمسة اجتماعات (من أصل تسعة اجتماعات متفق عليها أصلا). وعلى الرغم من أن NISRG أخفقت في نهاية المطاف في تنفيذ تفويضها، إلا أنها أثبتت أنها الأكثر إنتاجية من بين جميع المنتديات التي عقدت فيها مفاوضات حول سد النهضة. وتم الاتفاق على أربعة مبادئ كمعايير أساسية للتوصل لاتفاق بشأن سد النهضة وهي:
المبدأ الأول: تطبيق نهج تكيفي وتعاوني لملء وتشغيل سد النهضة، مما يضمن التنسيق الوثيق بين سد النهضة والسد العالي في مصر، ويوفر آليات لكلا السدين للتكيف مع الظروف الهيدرولوجية المتغيرة للنيل الأزرق وتقاسم عبء التكيف مع فترات الجفاف في المستقبل.
المبدأ الثاني: لتطبيق الحد الأدنى السنوي لتصريف المياه عبر السد. بمجرد وصول مستوى المياه في سد النهضة إلى مستوى يمكّنها من توليد الطاقة الكهرومائية، ستطلق إثيوبيا الحد الأدنى من كمية المياه لضمان بقاء خزان السد العالي عند مستويات مستدامة.
المبدأ الثالث: تحديد «المستويات الحرجة» في خزانات سد النهضة والسد العالي، وهي نقطة قطع في مستوى المياه في خزانات السدين. يتم تصنيف المياه تحت المستوى الحرج على أنها «احتياطي استراتيجي» يستخدم للتخفيف من آثار الجفاف والجفاف الممتد.
المبدأ الرابع: إنشاء آلية تنسيق مشتركة.
وبناءً على هذه المبادئ، قدمت مصر عرضًا شاملاً بشأن ملء وتشغيل سد النهضة. ولأن هذا ليس المكان المناسب لوصف تفاصيل هذا الاقتراح (إذا كنت مهتمًا شاهد الفيديو) https://www.youtube.com/watch?v=eTf6ZANNg3Y.
يكفي أن نقول أنه كان نهجًا عادلًا ومتوازنًا يرضي أهداف إثيوبيا التنموية، مع حماية مصر من حالات الجفاف المستقبلية .لسوء الحظ، رفضت إثيوبيا هذا الاقتراح المصري بإيجاز. في الواقع، عُقد اجتماع وزاري عديم الفائدة تمامًا لمدة يومين في القاهرة في 15-16 سبتمبر 2019 فشل في اعتماد جدول أعمال لأن إثيوبيا رفضت الاعتراف بأن مصر قدمت اقتراحًا. بعد ذلك بأسبوعين، عقد الاجتماع الختامي لـ NISRG في الخرطوم. خلال ذلك الاجتماع، الذي شهد في بعض الأحيان ردود شديدة اللهجة بين الوفود، قدمت إثيوبيا اقتراحًا جديدًا شعر خبراء المياه المصريون أنه يتضمن العديد من العيوب التقنية.
والأكثر إثارة للجزع أن هذا الاقتراح الإثيوبي أظهر أن إثيوبيا ليست مستعدة للاتفاق على قواعد تشغيل سد النهضة. وبدلاً من ذلك، كان هناك اقترح بإعادة التفاوض على قواعد تشغيل السد بشكل سنوي. وهذا جعل الاقتراح ضعيفا. نتيجة لذلك، تم التوصل إلى أن NISRG قد وصلت إلى طريق مسدود، وأن هناك حاجة لعملية جديدة لتحقيق اختراق.
كان ذلك عندما دعت مصر الولايات المتحدة الأمريكية والبنك الدولي للمشاركة في المفاوضات. أسرد قصة تلك المفاوضات في الجزء الثاني من هذا المقال.
* محمد هلال: أستاذ مساعد في القانون، كلية موريتز للقانون، جامعة ولاية أوهايو، ومستشار قانوني بوزارة الخارجية المصرية.