بعد سلسلة المقالات السابقة، منذ جائحة «كورونا»، تلقيت عديدًا من الرسائل أختار إحداها. أرسل إلىَّ أحد القراء، متسائلاً: ما هى الأصول التى تعلمناها من تعاليم الأديان؟! هل هى التعاليم التى تسلمها «آدم» و«حواء»؟ أم هى المبادئ والأخلاق التى تعيش عليها الإنسانية؟ فهل، إذا أردنا التوبة والعودة، تكون لله؟ أم لـ«آدم» و«حواء»؟ هل الدين هو الأصل؟ أم المبادئ الإنسانية هى الأصل؟!
أشكر القارئ العزيز، على هٰذه الأسئلة. نعلم علم اليقين أنه إلٰه واحد خالق للسماوات والأرض. ومما سبق من أسئلة، بدأ يظهر من هذه التساؤلات الصراع الرهيب فى رغبة الإنسان أن يصير مثل الله ـ حاشا لذلك! أشارت «المَسيحية» إلى رغبة الإنسان من البدء أن يصير مثل الله: «... بَلِ اللهُ عَالِمٌ أَنَّهُ يَوْمَ تَأْكُلَانِ مِنْهُ تَنْفَتِحُ أَعْيُنُكُمَا وَتَكُونَانِ كَاللهِ عَارِفَيْنِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ»، وأدانتها عند سقوطه وطرده من الجنة: «فَأَخْرَجَهُ الرَّبُّ الْإِلهُ مِنْ جَنَّةِ عَدْنٍ لِيَعْمَلَ الْأَرْضَ الَّتِى أُخِذَ مِنْهَا. فَطَرَدَ الْإِنْسَانَ...». وفى «الإسلام»: ﴿قالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِى الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ﴾. ومنذ تلك اللحظة، انحرف الإنسان بالإنسانية بكل ما تحمل من مبادئ عن الطريق السليم القويم، وظهر أول مثال لنا: فى أول حادثة قتل فى تاريخ البشرية، عندما امتدت يد الإنسان لقتل أخيه، وهنا أقول بملء الثقة: إن كانت المبادئ الإنسانية هى الحارس على خير البشرية وصلاحها، فأين كانت تلك المبادئ والأخلاق حين قتل الأخ أخاه؟! إذًا، فلنتفق معًا أن الدين هو الأصل والمصدر.
والحرب بين الخير والشر لا تزال متقدة من أجل إلغاء وجود الله ـ تبارك اسمه ـ وتأكيد وجود الإنسان!! إنها حرب تسعى لاستبدال الدين بالإنسانية تحت مسميات المحبة والمبادئ والأخلاق. وأذكر هنا ما قاله الإمام «علىّ بن أبى طالب»: «كلمة حق أريدَ بها باطل»، وأيضًا ما قاله الزعيم «غاندى»: «كم يخيفنى الشيطان حين يأتى ذاكرًا اسم الله!». إلا أنه علينا أن ندرك أن الله ـ تبارك اسمه ـ حين خلق الإنسان، وضع له وصايا من أجل الحياة، ومنحه النصائح، وأعطاه حرية الاختيار، فقال: «أُشْهِدُ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ. قَدْ جَعَلْتُ قُدَّامَكَ الْحَيَاةَ وَالْمَوْتَ. الْبَرَكَةَ وَاللَّعْنَةَ. فَاخْتَرِ الْحَيَاةَ لِكَيْ تَحْيَا أَنْتَ وَنَسْلُكَ...»، وأعطى فرصة للمخطئ أن يتوب ويرجع.
إن ما ينادى به من مبادئ إنسانية مصدرها «آدم» و«حواء»، لا الله ـ تبارك اسمه، لخديعة تستخدم مسمى الحب غير الحقيقى، غير الناضج، غير النابع من القلب، حب المصالح: وهذه هى المحبة الكاذبة، الخادعة، المسيَّسة! ونتذكر ما حدث مع «يونان النبىّ» حين قامت الرياح العاتية، وهاج البحر على السفينة التى كان فيها: أن جميع من فيها صرخوا كل واحد إلى إلٰهه، إذ كانت عبادات عديدة منذ القدم يصرخون فيها إلى آلهتهم وقت المحن والضيق.
ويحاول البعض غرس مفاهيم جديدة تنكر وجود الله، وتضع الإنسان والعقل البشرىّ والإنسانية فى المكانة الأولى!!! وما يزال هٰذا الصراع قائمًا حتى النهاية: «كيف يصير الإنسان مثل الله» ـ فحاشا ذٰلك!!! فظهرت الحركات الهدامة التى انغمس فيها البعض بمسميات عدة، واتخذوا قرارات لتهديم العالم، كُتبت بقلم الحرية تارة، وبمِداد المساواة على طِرس الإخاء تارة، ليُغمِدوا بصدر الإنسانية سلامًا لم يرَ التاريخ أمضى وأفتك منه!!! ليَبهَروا البسطاء والصغار والعميان. فاستخدموا السلاح الناعم الرقيق، فى حرب تُطيح بقوميات الأمم والشُّعوب، وتقضى على ما تحتفظ به من تقاليد خيّرة نبيلة. فمن له أذنان للسمع فليسمع.
وصار باسم الحرية التنديد بوجود الله ـ تبارك اسمه، والهجوم على الرسل والأنبياء والكتب المقدسة!!! وباسمها يُعلَن أن الدين علة تأخير الشعوب!!! وعدُو العقل والعلم!!! وباسمها أيضًا يُنال من معتقدات الأمم، ويُسطى على التقاليد الفطرية التى تحض على مكارم الأخلاق. باسم الحرية يُدْعى إلى الإجهاز على أديان الدُّول، وسيلةً لهدم الأخلاق!!! فيوجد من يسعى ويبُث فى نفوس البشر (الشعوب) بدعًا وهرطقات وشكوكًا، أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
ينادون بأنه لا إلٰه إلا الإنسان، ولا سيد وخالق ومعبود إلا الإنسان، إذ هو سيد الوجود المتصرف بنواميسه!!! ويؤكدون أنه ليس علينا أن نذل أعناقنا لنير ديانات متعددة، بل أن نترفع فوق كل إيمان بأىّ إلٰه كان. فهم يؤمنون وينادون بأن نسحق القبيح الفظيع الذى نسميه نحن «الله»!!! وأن الاعتقاد بوجود إلٰه والسجود له حماقة!!! حاشا ذٰلك: فإن هٰذا هو الكفر والإلحاد بعينه.
طالبوا البشر بأن يخربوا الآلة التى يتذرع بها رجال الدين: قاصدين بهٰذه الآلة الأديان نفسها، وأن تدريس الدين أعظم حاجز لصد النشء عن النمو والترقى. ويرَون أن الحل يكمن فى ملاشاة كل روح دينية أيًّا كانت، فيعمَلون بأيدٍ خفية نشطة لدفن جميع الأديان، وإذابتها فى بوتقة الإنسانية التى لن تخلص إلا بالرجوع إلى الله.
حاربوا رجال الدين بكسر نفوذ العلماء والكهنة والشُّيوخ، وبإيجاد انتقادات وتفتيت الرأى، فأباحوا الفساد، ونشروا الرذيلة بين الشعوب، وجعلوا الفساد أمنيتهم.
امتدت تلك الأيدى العابثة نحو الأوطان، فنادَوا وعلّموا برذل الوطن من أجل إقامة وطن آخر بمفهوم جديد على أنقاضه، وهٰكذا يحاولون أن يفعلوا بالأديان بتطبيق كل ما هو جديد.
هدفوا إلى هدم البشرية عندما أجازوا كل شىء، لجعل كل أمة تختلف على نفسها لتفتيتها.
القارئ العزيز، أحبتى العلماء، إخوتى الشيوخ والكهنة: أرأيتم فيما ينادى به، الآن، من المحبة والتساهل والنفع العام وخدمة الإنسانية ما لا يوجد فى إنجيلكم وقرآنكم؟! هل نريد إكرام أنفسنا ودفع الأذى والهوان، عندما يربطون أعناقنا بأحبال ويعصبون عيوننا، ويجردوننا من أدياننا، ويشبهوننا بالحجر الغشيم، لنصبح أحجارًا ملساء صالحة لأن تكون لبِنة فى جدار نظام جديد ـ أو ما يريدون أن يطلقونه عليه أيًّا كان اسمه أو مسماه؟!
كيف نخالف ضمائرنا، ووجداننا، وعقائدنا حينما نصعد على منابر الكنائس أو منابر الجوامع؟! أنذكّر المصلين بأحوال الدينونة، وغيرها من التعاليم السليمة؟ أم نخالف لننال ما نصبو إليه، ونسعى لكراسىّ نسمنها؟! فهل ندرك أنه من لا خير فيه لدين يعيش باسمه، لا خير فيه لقوم جمعتهم مصالح خاصة؟ لنحمِ أنفسنا، ونتمسك بالفضيلة، ونرفض الظلمة، فنحن مِلح الأرض، حاملو مِفتاح المعرفة، فلا نلوث الكنائس والمساجد وبيوت العبادة بالأفاعى!!
أكتُب لذوى العمائم البيضاء الطاهرة، والقلانس السوداء المقدسة، لنُدرك الدرن الذى يسعى ليتفشى فينا، لعلنا ندرك الخطر. لنحذر من الطريق الخفىّ الأسود الناعم الرقيق، الذى يسعى لنزع جُذور «اليهودية» و«المَسيحية» و«الإسلام» من الأرض. فهٰذا الطريق المشؤوم يتلون فى أسماء متعددة:... الإنسانية،... الجديد... إلخ. فمن يدفعنا فى هٰذا الطريق أكثر دهاءً منا وأبعد نظرًا: يجند أولادنا، يُعد لمعركة رهيبة، فلا نقل إننا قادرون على خداعه، فهو محتال متجسس مراوغ ووجوده لا يفيدنا. هل افتقدنا الوعى والرشد؟ هل نفكر بعواقب النار التى نلعب بها؟ إن الذى قرر النهوض على قدميه، لن يركع ويُحنى عنقه لأشخاص، وإن حكموا عليه بقوانين صارمة. فلنربح نفوسنا وقلوب أولادنا، فالذى يعزينا وجود رجال مخلصين لله ـ تبارك اسمه ـ فى كل أنحاء العالم، انقطعوا لتقصى الحقائق وكشف المستور. و... وفى «مِصر الحلوة» الحديث لا ينتهى!
* الأسقف العام رئيس المركز الثقافى