من الأفكار التى زارتنى أثناء فترة الحجر فكرة مؤداها أن اضطرار الإنسان للخروج للعمل هو أحد أسباب تعاسة البشر، وخصوصًا لو كان هذا العمل فى واحد من بلدان العالم الضائع. لقد تذكرت الأصدقاء الذين رأيتهم يتأففون من الخروج على المعاش ويبدون الضيق نتيجة شعورهم بالملل واللاجدوى بعد حرمانهم من العمل الذى تعودوا عليه.. وربما كنت فى السابق أشفق على هؤلاء، لكن الجنون الذى يصاحب الحجر هو الذى جعلنى أنظر إليهم الآن بحسبانهم أنواعًا رخيصة من العبيد الذين اعتادوا السخرة والإهانة وتلقى الأوامر الفاسدة، وأعتقد أن الواحد من هؤلاء لو حَسُن قلبه ونَظُفت سريرته لما شعر بالحنين إلى أيام الذل والهوان، إذ ما الذى تحمله الوظيفة سوى المسخرة وقلة القيمة؟. ولو أن أحدًا سألنى عن أكل العيش إذا صرنا جميعًا عواطلية، فإننى أقول له: أنا لا أدعو الجميع إلى نبذ العمل، وإنما دعوتى هذه تخص الأحرار الذين يشعرون بالغربة والبرودة فى أماكن العمل مثلما كنت أشعر، أما باقى الأنواع فالذل يليق بهم، لأن سعادتهم الحقيقية تكون فى الإغضاء والخضوع.. ما أود قوله للأحرار إنه إذا كان ليس من العمل بد لتغطية مصاريف الحياة، فالأفضل أن يعمل الإنسان عند نفسه حتى لو جلس على الرصيف يبيع ذرة مشوية. ولا ننسى أن الخروج للعمل هو الذى يتسبب فى أغلب المشاكل الأسرية بعد أن يعود رب الأسرة إلى البيت مقهورًا مكسور النفس ومحملًا بكمية كبيرة من الغضب يفرغها فى زوجته وأطفاله، ولا أظن أحدًا يستطيع أن ينكر أن العلاقات السائدة فى أماكن العمل فى غالبيتها زائفة، والضحكات بين الزملاء متكلفة ومغتصبة والأشياء لا تُسمى بأسمائها الحقيقية.. هناك لا يكف الناس عن «أذية» بعضهم بعضًا ونثر قشر الموز فى طريق بعضهم البعض والكيد والدس والوقيعة والغيبة والنميمة والافتراء وسائر الموبقات التى يغوص فيها الناس للفوز بعلاوة أو مأمورية أو ترقية. إن الوظيفة باختصار هى الطريق الأسهل ليبوء الإنسان بغضب الله من خلال إيذاء عباده من الزملاء والمتعاملين، والأعجب أن الموظفين يفعلون هذا بينما يواظبون على الصلاة فى مواعيدها، وكأن الله هو المدير الفاسد الذى ينافقون! وأعتقد أن الحل الذى قد ينقذ ما يمكن إنقاذه هو أن يكون الخروج للمعاش فى سن الخمسين، لأنه عند هذه السن تكون الحالة الصحية فى العادة لا تزال معقولة، وبالتالى فإن الفرصة تكون مواتية لمن أراد أن يعوض ما فات وأن يتفرغ للثقافة والمسرح والسينما والحفلات الموسيقية، وكذلك بالنسبة لمن أراد أن يتدين ويذهب للعمرة والحج، وأما بالنسبة لمن أراد أن يعيش حياة الرذيلة فإن الأوان لا يكون قد فات وقد تتحمل معدته الخمر الرخيصة وتتحمل رُكبه ومفاصله تبعات الفسوق بأنواعه!.
هذه نظريتى، رأيت أن أعرضها عليكم وأنتم أحرار!.