جاءت زيارة وزير الخارجية الأمريكى (كيرى) - المرشح السابق للرئاسة الأمريكية - للقاهرة ضمن محطاته المختلفة فى منطقة الشرق الأوسط، وعلى الرغم من أن القاهرة هى أهم هذه المحطات، إلا أنها كشفت عن حقيقة مؤلمة وهى أن نمط التفكير الأمريكى لم يتغير فى التمسك بالوصاية على النظام المصرى وعلى الثورة المصرية حتى إجهاضها.
فقد وجدت الإدارة الأمريكية فى ظل حكم أوباما، أن السبيل لإجهاض الثورة المصرية تحديداً يتمحور فى الدفع بجماعة الإخوان لكى تحتل صدارة المشهد بتعاون ودعم المجلس العسكرى لمبارك المخلوع، وذلك فى صفقة سميتها صفقة المثلث الشيطانى (أمريكا - المجلس العسكرى - الإخوان) وقد كان جون كيرى هو الراعى الرسمى لهذه الصفقة، وجاء لمصر بتكليف من أوباما شخصياً ومبعوثا فوق العادة - باللغة الدبلوماسية - لإنجاز الصفقة، فاجتمع مع المرشد فى مقر الجماعة الجديد فى المقطم وسط تغطية إعلامية واسعة، وذهب إلى المجلس العسكرى، وتردد كثيراً قبل توليه وزارة الخارجية مؤخراً عدة مرات فى زيارة مصر، وجاء من بعده جيمى كارتر ليزور مقر الإخوان، وكذلك جون ماكين، وكذلك أتت هيلارى كلينتون، وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك، طوال العامين المنصرمين، لتؤكد وتدعم الصفقة وتحميها حتى تم الدفع بالدكتور محمد مرسى الإخوانى لصدارة المشهد.
ثم جاء جون ماكين ليشكر «الشاطر» على تعاونه مع المجلس العسكرى لتهريب الأمريكيين السبعة فى القضية الوهمية المسماة «التمويل الأجنبى»، مؤكداً بذلك الصفقة، والآن يأتى «كيرى» لكى يعلن على الملأ، أنه جاء لدعم د. محمد مرسى ودعم شرعيته فى إطار الصفقة، وأنه وصل للسلطة عبر الصناديق، مؤكداً وصايته على الثورة، وأكد خلال لقاءاته مع بعض الشخصيات السياسية المدعومة أمريكياً بكل السبل، أنه لا سبيل سوى دخول الانتخابات، وطالب جبهة الإنقاذ وهى تمثل الجماعة الممثلة للثورة المصرية فى مواجهة الراغبين فى إنجاز خطفها نهائياً من جماعة الإخوان وأنصارهم من جماعات المتأسلمين، بضرورة التراجع عن مقاطعة الانتخابات والمشاركة فيها، وهو دعم مباشر للرئيس مرسى الذى فقد شرعيته وأصبح رئيساً سابقاً يوشك أن يتم خلعه رسمياً وإجباره على ذلك، وكذلك دعم لجماعته.
والملاحظ أن جون كيرى، وفريق عمله المصاحب له - وفى مقدمتهم السفيرة الأمريكية آن باترسون فى القاهرة، وهى المتخصصة فى زرع الفتنة السياسية لتنفيذ الأجندة الأمريكية ولها سابق خبرة فى باكستان - قد واجهوا فشلا ذريعا، لأنهم لم يكونوا يدركون حجم الرفض الشعبى لجماعة الإخوان ورئيسهم غير الشرعى (مرسى)، وحجم الجرائم التى ارتكبها مرسى وجماعته فى حق هذا الشعب واستشهاد نحو (100) شاب ومواطن مصرى خلال ثمانية أشهر، فضلاً عن التدهور فى جميع مرافق الحياة، خاصة تدمير اقتصاد مصر، وعقد الصفقات مع النظام السابق فى خروج آمن قد يعصف بالمجتمع كله، ولم يكن «كيرى» وفريق عمله يدركون مأساة الأمن المفقود فى عهد مرسى، حيث تأخرت زيارته لوزارة الخارجية المصرية لمدة ساعة حتى تم تأمين زيارته عسكرياً، وسط مظاهرات عارمة أعدت البيض والطماطم لإلقائهما عليه، الأمر الذى جعله يدخل من الباب الخلفى!
كما أنه فى طريق سفره وعودته عبر مطار القاهرة تأخر لمدة ساعتين بسبب قيام الشعب المصرى بقطع طريق المطار فى شارعى صلاح سالم والعروبة، رفضا لهذه الزيارة ورفضا للدعم الأمريكى المتواصل لمرسى وجماعة الإخوان.
ومن أسف.. بدلاً من توجيه النصح لتابعيهم فى قصر الاتحادية وقصر المقطم، سعوا لنصح القوى السياسية والثورية (جبهة الإنقاذ) للتراجع عن مقاطعة الانتخابات، وكأنها هى الملاذ الآمن لمصر وشعبها، وإنما هى فى الحقيقة مزيد من التمكين والسيطرة واستحواذ للجماعة. لم يدرك «كيرى» حجم المأساة والعصيان المدنى فى عشر محافظات بدأت فى بورسعيد المناضلة، وتداعت فى غيرها على مدار أكثر من أسبوعين دون رد فعل سوى المجابهة الأمنية والمزيد من القتل وسقوط الشهداء.
إن الإدارة الأمريكية لم تتعلم من الخطأ الأول فى سوء تعاملها مع ثورة 23 يوليو 1952، حيث رفضت التعامل مع دولة مستقلة وأصرت على التعامل على اعتبار أن مصر الثورة دولة تابعة والآن يتكرر المشهد، وقد يكون مرسى وجماعته أهلاً للتبعية كما هو واضح، لكن الشعب المصرى وثورته الجديدة فى 25 يناير 2011 والثانية فى 25 يناير 2012، والثالثة فى 25 يناير 2013، يرفض التبعية وينشد الاستقلال، والثورة مستمرة حتى النصر ودون الوصاية الأمريكية. عاش كفاح الشعب المصرى وثورته، ومازال الحوار متصلا.