«حمى الذهب» تخطت حواجز الزمن والجغرافيا لتحط فى أطيب بقاع القارة السمراء وأكثرها بكارة وخيراً، إنها السودان الشقيق، وتحديداً فى المنطقة الصحراوية الممتدة من ولاية نهر النيل شمال العاصمة الخرطوم، حتى جبال العلاقى والصحراء الشرقية المصرية.
آخر المعلومات والإحصاءات السودانية تقول إن نحو «نصف مليون» مواطن انتشروا خلال الأشهر الأخيرة ينقبون عن الذهب فى صحراء «العتمور» وجزء واسع من سلسلة جبال البحر الأحمر، بعد أن اكتشف السكان المحليون فى ولاية نهر النيل خلال العامين الماضيين كميات من الذهب فى الجبال والوديان والخيران ومراقد المياه، وهو ما دفعهم لامتهان التنقيب «البدائى» والتقليدى، الذى درّ عليهم مبالغ مالية كبيرة، حيث يؤكد السكان أن هناك فقراء فى المنطقة حوّلهم التنقيب عن الذهب وبيعه للتجار إلى أغنياء بين عشية وضحاها.
قيام السلطات السودانية بتقنين مهنة التنقيب عن الذهب دفع عشرات، بل مئات الآلاف من السودانيين إلى التوافد على الصحراء، بحثاً عن كنوز الطبيعة المدفونة، مما خلق مجتمعات عمرانية جديدة، أتت باقتصاديات عشوائية تدر أرباحاً هائلة، بدءاً من وسائل النقل ومروراً بالأطعمة والمشروبات والملابس، وانتهاءً بكروت الاتصالات.
ما رصدته منحنى شعوراً بالأمل فى إمكانية المطالبة بنقل تجربة تقنين التنقيب عن الذهب إلى مصر، وفق ضوابط تضمن حقوق الدولة وتنظم عمليات التنقيب وبيع الذهب المستخرج، لاسيما أن العوامل الجغرافية والعديد من آراء الجيولوجيين تؤكد أن كنوز صحراء مصر لا تقل عن امتدادها فى السودان الشقيق، فقررت الذهاب إلى السودان ليس للتنقيب عن الذهب، إنما للتنقيب عن خلاصة التجربة، لأطرحها أمام الرئيس الجديد الدكتور محمد مرسى، آملاً أن يقوم بتمصيرها.
الطريق إلى «الكنز المدفون» يبدأ من موقف عشوائى بالخرطوم و«أبوحمد» أصبحت قبلة الشباب والعاطلين للعمل فى التنقيب
هنا الخرطوم.. الطريق إلى الذهب يبدأ من موقف سيارات عشوائى فى قلب العاصمة السودانية المزدحمة، فهناك تقف سيارات نصف نقل تحمل أشخاصاً لتتجه بهم إلى مدينة «دنقلا» بالولاية الشمالية، أو «أبوحمد» فى ولاية نهر النيل، وهى الوجهة التى قصدتها بعد أن علمت أن المنقبين فيها يستعينون بالطريقتين البدائيتين: «الفرعونية» و«التقليدية»، اللتين تستخدم فيهما أجهزة الكشف عن المعادن.
التنقيب التقليدى عن ذهب السودان يتركز فى مناطق «العنج، ونصب الحصان، وجبل الرجل، والمعقل وقبقبة، ووادى العشار، وأم قمر»، حيث يتم فى ظروف قاسية، بداية من المناطق الوعرة التى تقل فيها المياه والطرق السالكة، وتشتد فيها حرارة الجو فى الصيف بصورة تصيب المواطنين الذين ينقبون عن الذهب بضربات الشمس، بينما تقل حرارة الجو فى الشتاء بشكل قاتل، لكن، ورغم مخاطر التنقيب عن الذهب فى شمال السودان، والتى يأتى فى مقدمتها التعرض للدغات الثعابين والعقارب، بل وهجمات من الذئاب والضباع المنتشرة فى الصحراء، فإن المنقبين لم يكترثوا بذلك، لأنهم خرجوا من ديارهم قاصدين إما العودة بالذهب أو اللاعودة.
«10 ساعات تقريباً» استغرقتها رحلة ذهابى من الخرطوم إلى «أبوحمد» القريبة نسبياً من الحدود المصرية، سرنا خلالها على طريق أحادى الاتجاه، بدأ من مدينة الخرطوم الجديدة، وامتد لولاية نهر النيل، مروراً بمدن «شندى والدامر وعطبرة وبربر، ثم أبوحمد».
«الحمى بدأت بعثور قلة من السودانيين على قشور الذهب فى صحراء ولاية نهر النيل».. كلمات استهل بها سائق السيارة ودليلى فى الرحلة محمد عبدالله «الذى يتسم بطول القامة والنحافة والطيبة الشديدة» حديث السفر معى، مؤكداً أن المنطقة تحولت إلى قبلة للشباب أصحاب الطموحات والعاطلين عن العمل، بل إن عدداً من الموظفين والعمال تركوا وظائفهم دون رجعة أو بإجازات مفتوحة، للعمل فى التنقيب العشوائى عن الذهب، لاسيما بعد أن رفعت الحكومة السودانية الحظر المفروض على التنقيب، وأصبح بمقدور أى مواطن اقتناء ما يشاء من المعدن النفيس، فنال عدد من المحظوظين نصيباً مقدراً من الذهب، وتبدلت حياتهم من فقر إلى ثراء فى ساعات.
كثير من السودانيين يعيشون فقراً مدقعاً، ويقاسون من ضيق ذات اليد وشظف العيش، كما أن 28% من خريجى الجامعات يعانون من البطالة «وفق إحصاءات رسمية»، ومن المحتمل أن ترتفع هذه النسبة فى خضم الأزمات السياسية التى تعانيها الخرطوم مع جوبا.. وأمام ندرة الفرص المتاحة لتحقيق دولة الرفاهية، تساوى المتعلم بالجاهل، والبائس باليائس والمغامر بقليل الحيلة، فجميعهم لم يتوانوا فى الانطلاق نحو الشمال السودانى، حاملين المعاول والأزاميل والمطرقات، وليس أمامهم سوى العودة بالذهب.
يقول دليل سفرى «عبدالله» - الذى لقّبته بـ«سبع الليل» لقدرته غير الطبيعية على السهر: «الحصول على جرامات الذهب ليس بالأمر السهل، فرحلة البحث الطويلة ربما تمتد لأشهر لتجهيز أدوات الحفر إلى جانب التزود بكميات كبيرة من الطعام ومياه الشرب، لأن مناطق التنقيب صحراوية وتبعد كثيراً عن العمار، ما أنعش الأسواق فى المناطق القريبة من مواقع التنقيب العشوائى، كمدن العبيدية وأبوحمد وشمال مدينة الدامر عاصمة ولاية نهر النيل، وامتلأت خزائن التجار وأصحاب المطاعم والمخابز وغيرها من محال البيع والشراء التى يتضاعف عددها بقيام العديد من المحال الجديدة»، مؤكداً أن عدداً من كبار تجار الذهب فى الخرطوم اتجهوا لتلك المناطق، ليبتكروا خدمة «الشراء الفورى» فى مناطق التنقيب العشوائى.
الباحثون عن الثراء أغلبهم يتمركزون فى الأودية شرق مدينة عطبرة، وغالبيتهم قادمون من الولايات الأخرى، لكن الذين على علم بأمر الذهب يتجهون رأساً إلى صحراء «أبوحمد»، وتحديداً فى «قبقبة» و«جبل الرجل»، و«نصب الحصان» و«البنجيم»، وفى غرب النيل فى «الحجاجية» و«السنقير» و«اب خلق».. ويبقى التدافع حول الذهب ليدر على ولاية نهر النيل مالاً كثيراً فى مجال الخدمات ومركبات النقل.
ساعتان فى قلب الصحراء لم يتوقف خلالهما زئير موتور السيارة خلال رحلتى من «أبوحمد» إلى أقرب بؤر التنقيب، وهى قبقبة، كانت تقابلنى سيارات عملاقة شبه متهالكة تسير كالسلحفاة فى اتجاه العودة وعلى متنها عشرات الأشخاص والأجولة، علمت من دليلى أنها ذاهبة إلى منطقة «الكسّارات»، وهى تجمّع فى منتصف المسافة بين العمار ومنطقة التنقيب، تضم آلاف العاملين، بعضهم متخصص فى تكسير وطحن أجولة الصخور، بواسطة كسارات ديزل، والآخر فى فصل ذرات الذهب عن التراب المطحون بواسطة أحواض ماء وزئبق أبيض، بخلاف العشرات من تجار الذهب الذين يشترون ما يتم استخراجه فورياً، ومئات العاملين فى المجالات الخدمية الاستراتيجية كالمطاعم والمقاهى والاتصالات.
بشائر الوصول لمبتغاى لاحت فى الأفق، حينما رأيت عشرات الأشخاص ينتشرون كالنقاط السوداء فى قلب الصحراء الشاسعة، بعضهم كان يحمل أجهزة حديثة للتنقيب عن المعادن، وآخرون يقفون بجوار جرارات وبلدوزرات حفر عملاقة، يتابعون ما تخرجه الأرض من باطنها.
الرياح الساخنة تلفح الأجسام وتشوى الوجوه، والوجوم سائد تحت شمس الصحراء الحارقة، وهؤلاء الناس يقيمون معسكراتهم فى بقع معزولة عن بنى البشر، مأهولة، بل ومكتظة بالأفاعى والحيّات والعقارب، وكأنها فى مساكن إيواء.
يأتى الجميع فى الصباح الباكر حاملين المعاول والأكياس سعياً وراء البريق المتلألئ لذلك المعدن اللامع عبر أرض قاحلة جرداء، فهؤلاء الناس بملابسهم الرثة وأحذيتهم المهترئة لا يطمعون فى الكثير، فقط مجرد حفنة من ذهب تقيل عثرتهم، ليعودوا قانعين بما «حملوا» وليس بما «حلموا» أثناء إيابهم.
الأمر لم يقتصر على نيل المكاسب بالذهب فحسب، فهناك مهن هامشية قامت وسط غبار التنقيب، فميرغنى سيد أحمد، المشهور بـ«بنى» يقف على أمشاط قدميه طيلة اليوم فى دكانته بموقف «الخرطوم» بعطبرة، إذ إنه يدير مكتباً لترحيل الباحثين عن متعة الثراء الذهبية إلى حيث أراضى التنقيب.
فأكثر من «500» مواطن يقوم «بنى» بترحيلهم يومياً إلى «وادى العشار»، الذى يبعد ثلاث ساعات من عطبرة، فى اتجاه محطة العبيدية شمالاً، نظير 15 جنيهاً، فى «باصات سياحية» وعربات «بكاسى»، وهى سيارات نصف نقل ذات صندوق «بوكس».
يقول «بنى»: «كم من راكب ذهب معدوماً وعاد متخماً بالمال والبترول الأصفر (قاصداً الذهب)، ويكفى أننى أقرضت الكثير منهم ثمن التذكرة ليعودوا مليارديرات، فمنهم من عثر على أكثر من 5 كيلو جرامات من الذهب، تعادل مبلغ 5 مليارات جنيه (وفق العملة السودانية) فى ضربة حظ لم تتعد أياماً قلائل».
ويقول «أبوفاطمة أحمد»، مقاول أنفار: «إن التعدين الأهلى استوعب ما لا يقل عن مليونين من الشباب، نصفهم من شباب الـ«فيس بوك»، الذين يمكنهم تفجير الأوضاع لو ظلوا عاطلين، ويعنى ذلك أن الحكومة ضربت عصفورين بحجر واحد، أى أنها مستفيدة سياسياً بتحييد تلك الكتلة الثورية الهائلة من الشباب العاطل ومن الناحية الاقتصادية، فإن هؤلاء صاروا منتجين لعملة صعبة، البلاد فى أمسّ الحاجة إليها، خاصة بعد خروج بترول جنوب السودان من الموازنة العامة».
تجولت كثيراً بين المنقبين الحالمين، فوجدت فى إصرارهم ما يتنافى تماماً مع تلك الصورة الذهنية المنتشرة عن خمول وكسل الأشقاء السودانيين، فأيقنت وقتها زيف تلك الصورة، لكنى تأكدت أيضاً من أن شهوة الثراء تصنع المعجزات.
بعد ساعات عدة قضيتها فى مناطق متفرقة، ما بين التنقيب «اليدوى»، بحثاً عن عروق الذهب فى الجبال بالأجنة والجاكوش، والتنقيب «الإلكترونى»، بحثاً عن ذرات الذهب بين التراب بأجهزة الاستشعار عن بعد، وهى المراحل الأولية لاستخراج المعدن النفيس، قررت التوجه إلى منطقة «الكسّارات»، وهى المجمع الذى يضم المراحل النهائية لتحويل التراب إلى ذهب.
فى منطقتى «الخندقاوى» و«الشلال» أطراف مدينة أبوحمد، تقوم مدينة صغيرة من «الطواحين» عددها يتجاوز الـ«300» طاحونة، مهمتها «طحن» حجر الكركار الذى يأتى به المنقبون من باطن الآبار أطراف الجبال.
عثمان مصباح ترك شهادته الجامعية وأخذ يقضى يومه خلف «طاحونته»، يتحمل غبارها وإزعاجها ويرضى برزقه الحلال.
يقول «عثمان»: «نطحن الجوال بعشرة جنيهات، ونغسله بعشرة أخرى».