أما «القامة» التى أعنيها فهى الصحفى العالمى الاستثنائى- أطال الله بقاءه- محمد حسنين هيكل. ثم جرنى تداعى المعانى إلى نجيب محفوظ ومحمد خان والحضارة الفرعونية عموما.
والحكاية بدأت بخبر (أتمنى أن يكون صحيحا) عن لقاء امتد أربع ساعات كاملة بين وزير الدفاع وهيكل، بناء على طلب السيسى نفسه. ويأتى اللقاء من باب الاستماع إلى نصائح «الأستاذ»، وزاوية التقدير الكبير الذى يحمله وزير الدفاع لهيكل.
أسعدنى الخبر كما يسعد كل ذى مروءة. أحب- وقد بلغ هيكل التسعين- أن يُعامل من جميع المصريين كرمز وطنى. إننى أتفهم طبعا أن هيكل لا يمكن أن يكون محايدا فيما يختص بجمال عبد الناصر، كونه كان شريكا متضامنا معه. وأتفهم أيضا أن الكيمياء لم تعمل جيدا بينه وبين السادات، ولكن ما المانع أن نستفيد بحكمته فى أوضاعنا الحالية الملتبسة؟.
أخشى أن أقول إننا لن نعوضه إذا رحل. للأسف الشديد بعد رحيل هيكل لن يبقى فى مصر رجل مجرب حكيم ُنصغى له.
هيكل الذى تُوزن حروفه بالذهب. هيكل التشويق والعمق والمتعة. هيكل الذى حول السياسة الجافة إلى أدب رفيع مُطرز بالذهب. هيكل يملك موهبة روائى من عجينة نجيب محفوظ، وقد أجمع النقاد أننا كسبناه كاتبا سياسيا فذا وخسرناه أديبا مرموقا.
نحن أمام قامة فكرية وتجربة استثنائية. رجل يلقى الاحترام أينما حل فى العالم المتقدم. نتاج عمل فكرى وسياسى دؤوب استمر أكثر من سبعين عاما. نحن أمام رجل عاصر الحرب العالمية الثانية وعرف تحولاتها المذهلة وشاهد أقدام الإمبراطورية الأمريكية الغليظة وهى تقفز على العالم. رجل شهد نشوء إسرائيل وجيل الآباء المؤسسين وحروبها الدامية. رجل خَبَر الإخوان المسلمين وعرف مؤسسها عن قرب، وشاهد ذرا القمة وحضيض القاع. شاهد بعينه سيارة عبدالناصر والجماهير السورية ترفعها، ثم شاهد سقوط عبد الناصر نفسه الذى كسره الانفصال. ماذا أقول أكثر؟ هل يمكن أن يستوعب مقال واحد تجربة حياة هيكل؟.
من المؤسف أننا فى مصر لا نعرف كنوزنا الثقافية. من السهل جدا إهانة هيكل على يد كل من هبّ ودبّ. تصوروا أن العبقرى «محمد خان» (اتمرمط) فى سبيل الحصول على الجنسية المصرية مع أنه يشرفها والله! وحتى «نجيب محفوظ» فنحن أعدنا اكتشافه بعد نوبل! وتعاملنا بازدراء وتعالٍ مع الحضارة الفرعونية. كان أجدادنا يسمونهم المساخيط، ولطالما أنضجوا الطعام على المومياوات لأنها أرخص من الحطب!! وانتوى محمد على هدم الأهرامات واستخدام حجارتها فى بناء القناطر لولا أن تصدت له الدول الغربية باعتبار الأهرام تراثا إنسانيا. ولم نكتشف قيمة الحضارة الفرعونية إلا بعد الحملة الفرنسية والولع الجارف بمصر القديمة.
فلنكن صادقين مع أنفسنا فنعترف بتقصيرنا المخجل مع ثرواتنا الثقافية. هيكل وخان ومحفوظ وأجدادنا الفراعنة هم من جعلوا لنا وزنا فى الغرب رغم واقعنا البائس! يسمونهم بلغة الاقتصاد «القيمة المُضافة»، التى أضافت إلى رأس المال (مصر) الربح الناتج من عملهم. وهذه القامات الشامخة أضافت إلى قيمة مصر الكثير والكثير.