تجمع خلال الحرب العالمية الثانية (1945-1939م)، ثم الحروب فى كوريا (1954-1951م)، والجزائر (1962-1954م) وفيتنام (1972-1962م)، والعِراق (2009-2003م)- تراث عِلمى هائل عن مُعسكرات الاعتقال، والتعذيب، وسُجناء الحرب، والعلاقات المُعقدة بين السُجناء والسجّانين، وبين الضحايا والجلادين. وقد شارك فى هذه الدراسات والبحوث المئات من عُلماء النفس والاجتماع والصحة النفسية. ورغم التاريخ الطويل للسجون والمُعتقلات فى مصر، والتى دخلها مئات الألوف، على مر العصور، خاصة فى المائة سنة الأخيرة، إلا أن هناك نُدرة فى الدراسات العِلمية حول هذا الموضوع. وقد أتيحت لى واحدة من الفُرص النادرة لدراسة هذا الموضوع، من منتصف سبعينيات القرن الماضى إلى عام 2003م ـ أى على امتداد ما يقرب من رُبع قرن.
بدأت تجربتى فى دراسة السجون المصرية بتكليف لىّ من المرحوم الدكتور أحمد خليفة، وزير الشؤون الاجتماعية الأسبق، ومُدير المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية، فى أواخر عام 1975م، لدراسة ما كانت سُلطات الدولة المصرية تُطلق عليه «الانحراف الدينى»، وجاء هذا الطلب فى أعقاب أحداث ومُحاكمات ما عُرف وقتها باسم «قضية كُلية الفنية العسكرية»، التى كانت فى جوهرها مُحاولة انقلاب يقوم به تنظيم إسلامى يقوده الفلسطينى صالح سرية، ومجموعة من شباب الجامعات، وطلبة الكُلية الفنية العسكرية، التى كان دور مجموعتها تأمين واستخدام عدد من الآليات والمُدرعات من تلك التى كان يتدرب عليها طلبة الكُلية، ويخرجون بها من مبنى كُليتهم، إلى العباسية، ومنها إلى مبنى الاتحاد الاشتراكى على كورنيش النيل، صباح يوم معلوم، حيث كان الرئيس الراحل أنور السادات، فى اجتماع مع أقطاب نظامه فى ذلك اليوم من إبريل 1974م، للقبض عليهم. وتقوم مجموعة أخرى، بالتزامن مع ما يحدث فى مقر الاتحاد الاشتراكى، بمُداهمة مبنى الإذاعة والتليفزيون، القريب منه، لإذاعة البيان رقم (1) لقيام «جمهورية مصر الإسلامية».
فشلت الخطة، وتم القبض على الضالعين فيها، وأعدم عدد منهم، وحُكم على الآخرين بالمؤبد. وتلك هى المجموعة التى قمت وفريق معى ضم اللواء إبراهيم الفحّام، ود. سهير لطفى، ود. محمد محيى الدين، والمستشار عدلى حسين محافظ القليوبية الأسبق- على دراستها فى سجن مزرعة طُرة، خلال السنوات الثلاث التالية، وإلى أن انفجرت الثورة الإيرانية، وعاد آية الله روح الله الخومينى إلى طهران. وحين وصل الخبر إلى السجن انفجر النُزلاء أنفسهم بهتافات التكبير. وصدرت الأوامر فجأة لإدارة السجن بصرف فريق البحث من السجن، وعدم السماح باستمرار عملنا الميدانى، وكان ذلك فى أواخر عام 1979م. وكان ضمن من درسناهم من الإسلاميين، صفوت عبد الغنى، وناجح إبراهيم، وطلال الأنصارى، ونبيل نعيم، وصبرة القاسمى، وعشرات غيرهم. أما المناسبة الثانية، التى أتاحت لى فُرصة العودة لمُراقبة ما يحدث فى السجون المصرية، فقد كانت فى أواسط ثمانينيات القرن الماضى، وكنت وقتها أميناً عاماً للمُنظمة العربية لحقوق الإنسان، للتحقيق فى عدد من شكاوى محبوسين ومسجونيين، لاتهامات تعرضوا لها.
المرة الثالثة والأخيرة، التى تردّدت فيها على السجون المصرية، كانت خلال قضية مركز ابن خلدون، حيث قضيت وسبعة وعشرون من زُملائى فى المركز ثلاث سنوات، قبل أن تحكم محكمة النقض، أعلى محاكم الديار المصرية، ببراءتنا الكاملة مما كان نظام الرئيس حسنى مُبارك قد لفّقه لنا من اتهامات.
والجدير بالذكر، هنا، هو أننى انتهزت تلك المُناسبات الثلاث لدراسة مجتمع السجون ـ ابتداء من مرحلة إلقاء القبض، إلى تحقيقات الأمن، إلى تحقيقات النيابة، والإحالة إلى المُحاكمة، إلى الترحيل من المحكمة، فى حالة صدور حُكم بالإدانة، إلى السجن الذى تُحدده المحكمةـ من حيث درجة التشدّد، وما إذا كان أشغالا شاقة، أم أشغالا عادية. كذلك تُحدد المحكمة، بعد استشارة الأجهزة الأمنية، ما إذا كان المُحكوم عليه سيؤدى العقوبة فى سجن انفرادى أم سجن جماعى. وكنت أدرك من واقع دراستى وتدريسى لعِلم الإجرام، أن أقسى أنواع العقوبة، بعد الإعدام، هو السجن الانفرادى. فلأن الإنسان مخلوق اجتماعى، فإن سجنه انفرادياً، بلا تفاعل مع بشر آخرين، يُجرّده من إنسانيته، ويتقهقر به إلى حيوانيته. ويمكن لهذا النوع من العقاب أن يُصيب صاحبه باختلالات عقلية وجُسمانية، قد تصل إلى الشلل أو الجنون، أو هما معاً. وقد كان نصيبى من تلك التجربة هو الشلل. وخرجت من السجن على نقالة، مثل تلك التى نرى الرئيس حسنى مُبارك عليها، حينما يُحضرونه من نفس السجن «مزرعة طُرة» إلى المحكمة.
وعدت فى أثناء فترة السجن بمراجعة كل ما درسته، كعالم اجتماع، واستعنت بهذه المعرفة على تدريبات بدنية وذهنية، أملاً فى الوقاية من الشلل والجنون. وحينما أطلق سراحى (18/3/2003)، سافرت إلى الخارج لإجراء أربع جراحات فى المُخ، والأعصاب، والعمود الفقرى، لاستعادة بعض ما فقدته فى السجن. والحمد لله فقد استعدت قُدرتى اليدوية على الكتابة، وبعض قُدراتى الحركية على المشى، وإن مستعيناً بعصا، أتوكأ عليها.
المهم للموضوع الذى أعطيته عنوان «الإخوان والمرآة العاكسة» هو أننى درستهم كعالم اجتماع، ودافعت عنهم كناشط لحقوق الإنسان، ثم زاملتهم كسجين ـ بمن فيهم د. محمد مُرسى، وخيرت الشاطر وآخرون- وحينما عُدت إلى مراجعى عن العلاقة بين الضحايا والسجّانين، استوقفتنى تلك الظاهرة، التى تبدو غريبة لأول وهلة، وهى تقليد الضحايا سجّانيهم.
ففى مُعسكرات الاعتقال بألمانيا النازية، وحينما كان يُسأل المُعتقلون عما يُريدونه أو يتمنونه قبل أن يُساقوا إلى محارق الغاز، فقد كان الطلب الأكثر تكراراً، هو ارتداء زِىّ السجّانين، والمشى كما يمشون، والصياح كما يصيحون. باختصار، من كثرة وعُمق السيطرة والتعذيب، يتماهى الضحية مع الجلاد، ويتمنى فى عقله الباطن أن يكون مثله. وفى أول فُرصة تُسنح له لكى يفعل ذلك فإنه ينتهزها بشوق وشبق.
ولعل ذلك ما يُفسر القسوة التى يتعامل بها الإسرائيليون (ضحايا الأمس فى المُعتقلات النازية) مع الفلسطينيين (ضحايا اليوم فى الأراضى المُحتلة)، بل إن هذا ما يُفسر أيضاً القسوة المُفرطة التى تعامل بها مُقاتلو حركة حماس الفلسطينيون مع أسراهم من مُقاتلى حركة فتح، الفلسطينيين أيضاً. وهو نفسه الذى يُفسر القسوة المُفرطة لميليشيات الإخوان المسلمين فى انقضاضهم على المُتظاهرين ضد الرئيس محمد مُرسى، وتعذيب من يعتقلونه منهم، تعذيباً يُفضى إلى الموت، مثلما حدث مع محمد الجندى، وعمرو سعد، وآخرين. فلا حول ولا قوة إلا بالله.
وعلى الله قصد السبيل.